وثيقة الأخوة الإنسانية: السلام بين الديانات في عالم مضطرب

وثيقة الأخوة الإنسانية: السلام بين الديانات في عالم مضطرب

بقيت العلاقات بين المسيحية والإسلام متوترة لأوقات تاريخية طويلة، وظلت محكومة لحقب متأخرة بالجدال والردّ العقائدي(1)، القائم على احتكار الحقيقة الدينية والاصطفاء الخلاصي، وإن ظهرت مساحات مشتركة بينهما تؤسس للتعارف المتبادل والحوار الديني خلال التاريخ الكلاسيكي والمعاصر.

قفز المجمع الفاتيكاني الثاني(2) (1962- 1965م) قفزات هائلة تجاه المسلمين واليهود وكذلك الهندوسية والبوذية في بيانه «حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية» (Nostra Aetate)؛ فإلى جانب الاعتراف بهم كمؤمنين موحدين، وباحثين عن «السر الإلهي»، أُدرجوا في منظومة الخلاص والأخوة الشاملة النافية للتمييز: «لا نستطيع أن ندعو الله أبا الجميع إذا رفضنا أن نسلك أخويًّا تجاه الناس المخلوقين على صورة الله. فعلاقة الإنسان بالله الآب وعلاقته بأخوته البشر مرتبطتان إلى حد أن الكتاب (الإنجيل) يقول: «إن من لا يحب لا يعرف الله» (1 يوحنا 4/8)(3). أدركت الكنيسة الكاثوليكية أنه لا بد من المصالحة مع العالم وقيم الحداثة، بعد العصور الظلامية الطويلة وإثر الحروب المديدة التي خيضت تحت راية الصليب، سواء في أوربا أم إبان الحروب الصليبية، فاعتذرت في مجمعها عن كل هذا «العنف الديني» مؤسِّسةً بذلك لذاكرة غفرانية تجاه الذات والآخر.

إن المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية، وعلى رأسها الأزهر، مطالَبة اليوم بالتأسيس لثورة داخلية تُخرج المسلمين من الانغلاق الديني، وتتقدم بهم نحو قيم الحداثة والإجابة عن تحديات العصر والعالم؛ هذا المشروع الإصلاحي الضخم لا بد منه- كما حدث مع «الأصولية الكاثوليكية» التي فككها كبار الفلاسفة الأوربيين واللاهوتيين المجددين(4)؛ من أجل الابتعاد التدريجي من «الإسلام الأصولي»، و«إسلام السلف»، و«إسلام الفقهاء»، والعودة إلى الجذور الحقيقية في المسائل الدينية الرئيسة ومن ضمنها الرؤية القرآنية تجاه «أهل الكتاب» شركاء المسلمين في التوحيد.

عرفت العلاقة بين الأزهر الشريف والفاتيكان، حالات من المد والجزر. قام الطرفان بمبادرات لا بأس بها تجاه الآخر، لكن شابهها الكثير من الحذر وأحيانًا القطيعة والابتعاد، ولا سيما إثر السجال الذي دار حول ما قاله البابا بنديكتوس السادس عشر (Benedict XVI) (2005- 2013م) عن الإسلام، وما رافقه من احتجاجات وتوضيحات.

أسس اللقاء بين البابا فرنسيس (Francis) (2013-)، رأس الكنيسة الكاثوليكية، وشيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، الذي حدث خلال ثلاثة أيام (3-5 فبراير/ شباط 2019م) في الإمارات العربية المتحدة، بدعوة بادر إليها الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، لتاريخ جديد في العلاقات الإسلامية– المسيحية، وفتح آفاقًا للتلاقي بينهما، كُلِّلت بالتوقيع على «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك»(5)، التي قارنها بعضٌ بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ «لكنها هنا قائمة على القيم الدينية والأخلاقية مثل الرحمة والمحبة والإنصاف وقبول الآخر ومعاملة البر والقسط، وتقصُّد السلام والأخوة بكل سبيل»(6).

تسعى هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية لـــ«وثيقة الأخوة الإنسانية»، وتحاول قبل هذه القراءة الإحاطة بعدد من المحطات التاريخية التي رافقت العلاقات الإسلامية– المسيحية، وبخاصة العلاقة بين الفاتيكان والإسلام، وتتحقق من فرضية مفادها: أن «وثيقة الأخوة»، على أهميتها من المنظور الحواري والإنساني/ الديني، شكلت تراجعًا في العديد من مواقفها للفاتيكان، إذا ما قورنت بوثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، ومع ضرورة الإقرار باختلاف السياقات التاريخية بين الحدثين التاريخيين، لكننا نرى أنها صِيغَت بعقلية دينية محافطة، واتخذت مواقف سلبية تجاه غير المؤمنين واللاأدريين والملحدين، ولم تكن لغتها واضحة تجاه أبناء الديانات الأخرى كاليهودية على سبيل المثال.

أولًا- العلاقات الإسلامية(7)– المسيحية: الفاتيكان والإسلام

مرت العلاقات بين الفاتيكان والعالم الإسلامي بمراحل سيئة وأخرى بالغة السوء، وقد وصلت إلى ذروتها عندما أعلن البابا أوربانوس الثاني (Urban II ) عام 1095م الحروب الصليبية(8) (حروب الفرنجة كما سمّاها العرب والمسلمون)، تحت راية حماية الأراضي المقدسة، التي استمرت حتى عام 1492م(9). في عام 1212م، قام تحالف من دول مسيحية عدة بتوجيه من البابا إينوسنت الثالث (Innocent III) لطرد المسلمين الأندلسيين من إسبانيا، ونجح هذا التحالف في معركة «لاس ناباس دي تولوزا» (las Nabas de Tolosa)، كما يسميها المؤرخون الإسبان، وذلك نسبة إلى بلدة إسبانية تقع بالقرب من ساحة المعركة، أو معركة «العقاب» كما يسميها المؤرخون المسلمون، نسبة إلى اسم قلعة كانت قائمة في الموقع.(10) وبعد سقوط القسطنطينية، على يد الأتراك (محمد الفاتح) عام 1453م، حاول البابا نيكولاس الخامس (Nicholas V)، ومن بعده البابا بيوس الثاني (Pius II)، إعداد حملة صليبية إيطالية، ولكن لم تلقَ دعوة أي منهما تجاوبًا يذكر.

البابا يوحنا الثالث والعشرون

بدأت المرحلة الجيدة مع الإسلام مع انطلاق «المجمع الفاتيكاني الثاني» (1962-1965م) الذي دعا إليه البابا يوحنا الثالث والعشرون، ومع أن الأسباب التي دعت إلى عقده كانت متعددة، فإن الرغبة في استكمال العملية التي بدأها المجمع الفاتيكاني الأول(11)، وفي جعل الكنيسة أكثر انفتاحًا على العالم كانت المهيمنة على تلك الأسباب(12). دشن هذا المجمع لأساس الاعتراف المسيحي بالإسلام في بيانه حول «علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية» الذي جاء فيه: «وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحي القيوم الرحيم الضابط الكل خالق السماء والأرض المكلم البشر. ويجتهدون في أن يخضعوا بكليتهم حتى لأوامر الله الخفية، كما يخضع له إبراهيم الذي يُسند إليه بطيب خاطر الإيمان الإسلامي. وإنهم يجلُّون يسوع كنبيٍّ وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرِّمون مريم أُمَّه العذراءَ كما أنهم يدعونها أحيانًا بتقوى. علاوة على ذلك فإنهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كل البشر القائمين من الموت؛ ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقية، ويؤدون العبادة لله لا سيما بالصلاة والزكاة والصوم. وإذ كانت قد نشأت، على مر القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين(13)، فالمجمع المقدس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بالخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معًا العدالة الاجتماعية والخيور الأخلاقية والحرية لفائدة الجميع»(14). هنا من الضروري أن نذكِّر بالجهود الكبيرة التي قام بها الراهب الماروني الأب يواكيم مبارك (1924- 1995م) في المجمع الفاتيكاني الثاني من أجل عدِّ الفاتيكان الإسلامَ في مثلث الديانات التوحيدية، وهو ما شكل خروجًا تاريخيًّا على تراث الحروب الصليبية وسياسة التنكر الكامل للمسلمين(15). وفي وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني المعنونة «نور الأمم» (Lumen Gentium) أُدرج المسلمون في الخلاص الآخروي، حيث يرد ما يلي: «ولكن تصميم الخلاص يشمل الذين يعترفون بالخالق، ومن بينهم أولًا المسلمون الذين يقولون: إن لهم إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الإله الواحد الرحيم، الذين سيدين البشر في اليوم الأخير»(16).

أعد الأب جوزيف كوك(17) (1917- 1986م) والفيلسوف الفرنسي لويس غارديه(18) (1904- 1986م) دراسة(19) قدَّم لها الكاردينال باولو ماريللا (1895- 1984م)، المسؤول السابق عن «الأمانة العامة لشؤون غير المسيحيين»(20) في الفاتيكان، جاء فيها: «يجب أن نعترف وبكل شجاعة وصدق، أن المسلمين لم يلاقوا من العالم المسيحي إلّا القليل من التعاطف والودّ… وقليلون هم الذين أوليناهم العناية الكافية… وحتى اليوم، وفي أكثر الأحيان، عرف المسلمون العالم الغربي من خلال الأنظمة الاستعمارية، وباختصار، يجب أن نعي وبكل موضوعية أن المسيحيين لم يحققوا بعد، كمجموعة، الشرط الأول والأهم الذي يؤهلهم لأن يكونوا موجودين وحاضرين في عالم المسلمين كما هو، وعلى حقيقته… وعلى هذا الأساس فإن الحوار لن يكون ممكنًا طالما أن مثل هذا الجهد لم يُبذل بعد». جاء في الدراسة أيضًا: «لقد ساد بين المسلمين والمسيحيين ماضٍ مؤلم سيطر عليه الاقتتال والعداوة، فيما عدا بعض أجزاء العالم الإسلامي التي بقيت جغرافيًّا بعيدة من الغرب المسيحي، لدرجة أن المجموعتين انطوتا على نفسيهما، وبقي كل منهما محافظًا على موقفه، ومثل هذا الوضع لا يشجع على الحوار إطلاقًا، ويجب أن نعمل على تجاوزه، وعلينا نحن المسيحيين أن نبدأ الخطوة الأولى من دون أن نحاول معرفة ما إذا كان هذا منطقيًّا في نظر الحكمة الإنسانية»(21).

أسس «الأمانة العامة لشؤون غير المسيحيين» البابا بولس السادس (Paul VI)(22) عام 1964م، وأعيد تسميتها عام 1988م لتصبح «المجلس البابوي للحوار بين الديانات» يرأس المجلس المكوَّن من 30 عضوًا من الأساقفة والكرادلة، كبير الأساقفة، يجتمعون في جلسة مكتملة كل سنتين أو ثلاث سنوات. ويُعهد إلى هذه المؤسسة المسؤوليات الآتية:

١. تعزيز التفاهم والاحترام والتعاون على نحو متبادل بين الكاثوليك وأتباع الديانات الأخرى.

٢. تشجيع دراسة الديانات.

٣. تعزيز إعداد الأشخاص المكرسين للحوار(23).

أصدر المجلس عام 1984م وثيقة سماها «موقف الكنيسة تجاه أتباع الديانات الأخرى: تأملات وتوجيهات حول الحوار والإرسالية» حدد فيها أربعة أنواع للحوار:

١. حوار الحياة، وهو عبارة عن مشاركة تجربة الحياة الشخصية مع الطرف الآخر.

٢. حوار الأعمال، وهو يتعلق بمشاركة الأعمال مع الآخرين والتعاون معهم في سعيهم من أجل أهداف إنسانية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية.

٣. حوار الخبراء، حيث تتقابل التراثات الدينية وتتعمق وتُثرى بوساطة تطبيق الخبراء لخبرتهم على المشاكل المشتركة قيد البحث.

٤. حوار التجربة الدينية، حيث بإمكان أتباع الديانات المختلفة أن يتشاركوا في تجاربهم الإيمانية بتواضع وحسن نية(24).

فتح هذا الموقف الفاتيكاني بوابات الكنائس الأخرى على الإسلام، ولعل أهمها بوابة مجلس الكنائس العالمي الذي أنشأ في عام 1971م دائرة للحوار مع الديانات، وخصوصًا مع الإسلام. وكان المجلس قد أقام في مارس/ آذار 1969م أول مؤتمر له في بلدة كارتينيي مخصص لموضوع الحوار بين الديانات على المستوى العالمي. وبعد عشر سنوات، في عام 1979م، صدرت عن المجلس وثيقة تضمنت المبادئ العامة للحوار مع أهل الديانات الحية، حاولت إبراز القضايا الفقهية– اللاهوتية والقضايا العملية للحياة المشتركة بين المؤمنين بالديانات المختلفة(25).

تحتوي رسالة البابا يوحنا بولس الثاني (1920- 2005م) عام 1990م المعنونة بـــ«رسالة الفادي» على أكثر تعاليم الكنيسة الكاثوليكية تقدمًا وموثوقية حول الحوار بين الديانات. جاء في الرسالة تحت محور «الحوار مع الإخوة من ديانات أخرى» الآتي: ينفتح حقل واسع أمام الحوار الذي يمكنه أن يأخذ أشكالًا وتعابير عديدة: بدءًا بالتبادل بين اختصاصيين في التقاليد الدينية، أو بين ممثلين رسميين لها، حتى التعاون في ترقّي القيم الدينية الكامل والمحافظة عليها، وعلى مشاركة الاختبارات الروحية الخاصة، إلى ما اتفق على تسميته بـ«حوار الحياة» الذي من خلاله يشهد المؤمنون المنتمون إلى مختلف الديانات الواحد أمام الآخر، في الحياة اليومية، عن قيمهم البشرية والروحية، ويتعاونون بها على الحياة ليؤسّسوا جماعة أكثر عدلًا وأكثر أخوّة»(26).

البابا يوحنا بولس الثاني

تأزمت العلاقات بين الأزهر والفاتيكان منذ عام 2006م؛ بسبب ما أثارته كلمة البابا السابق بنديكتوس السادس عشر من ردود أفعال في العالم الإسلامي، على خلفية استشهاده بأحد الفلاسفة الذي ربط بين الإسلام والعنف، لكن الحوار عاد عام 2008م. غير أن التأزم طبع عام 2011م بعد تصريحات البابا بنديكتوس حول تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية في شهر يناير/ كانون الثاني من العام نفسه، طالب فيها بحماية المسيحيين في مصر، وهو ما عَدَّه شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب تدخلًا في الشؤون المصرية. اسْتُؤْنِفَت العلاقات عام 2016م بمبادرة من الفاتيكان، تُرجمت بلقاء بين البابا فرنسيس والإمام أحمد الطيب في مايو/ أيار 2016م، وبزيارة لاحقة للبابا لمصر في شهر إبريل/ نيسان 2017م التقى فيها الإمام الطيب وشارك في مؤتمر الأزهر العالمي للسلام.

أعطى اللقاء التاريخي بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر في أبوظبي في فبراير/ شباط 2019م دفعًا كبيرًا للعلاقات الإسلامية– المسيحية، التي شهدت حالة من التشنج في حقبة البابا بنديكتوس، وجاء التوقيع على «وثيقة الأخوة الإنسانية» ليستكمل مسيرة التلاقي بين أكبر ديانتين في العالم. فما أبرز النقاط التي طرحتها الوثيقة لجهة الحوار الديني والعلاقة بين الديانات وقضايا العالم المعاصر وتحدياته؟ وهل شكلت بعض أفكارها بالنسبة للفاتيكان تراجعًا عن وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني؟ وما السياقات التاريخية المعاصرة التي طبعتها؟ يأتي القسم الثاني من هذه الورقة في محورين؛ الأول: قراءة وتعقيب على وثيقة الأخوة الإنسانية(27)، والثاني، تحليل السياقات والتحديات المرافقة لها.

ثانيًا- وثيقة الأخوة الإنسانية: الأفكار، والسياقات والتحديات

١. قراءة وتعقيب على «وثيقة الأخوة الإنسانية»

جاءت «وثيقة الأخوة الإنسانية»(28)، المؤلفة من المقدمة والوثيقة والخاتمة، التي وقع عليها قداسة البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيب، يوم 4 فبراير (شباط) 2019م، في أبوظبي، محملة بالمعاني والدلالات؛ فلم تنحصر أفكارها بشؤون الحوار الإسلامي- المسيحي وثقافة العيش المشترك وضرورته في الأزمنة الصعبة التي نمرُّ بها، فإلى تأكيدها الخطوط العريضة لهذين الموضوعين الحيويين، تطرقت إلى قضايا عالمية تشغل مجتمعاتنا المعاصرة، كالفقر والتهميش، والمهاجرين، والحروب، والتعصب الديني، والصراعات الدولية والتقدم العلمي والتكنولوجي ومخاطره، وافتقاد عدالة التوزيع للثروات الطبيعية، والإرهاب، والحرية(29) والتعددية والاختلاف في الدين، والعلاقة بين الشرق والغرب، والمرأة والطفل والمسنين.

إنه لأول مرة في تاريخ العلاقات الإسلامية- المسيحية، تلتقي مرجعيتان دينيتان كبريان وتوقعان على وثيقة من هذا النوع، ولا ريب أن هذا الحدث التاريخي سيكون له تأثير إيجابي، في مساحات العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وهي مساحات عميقة وحاضرة في ذاكرتنا وفي التاريخ والمعيش.

أشارت الوثيقة إلى أن «الإيمان المؤمن» يدفع إلى أن «يرى في الآخر أخًا له، عليه أن يُؤازرَه ويُحبه. وانطلاقًا من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعًا وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته، فإن المؤمن مدعوٌّ للتعبير عن هذه الأخوة الإنسانية بالاعتناء بالخليقة وبالكون كله، وبتقديم العون لكل إنسان، ولا سيما الضعفاء منهم والأشخاص الأكثر حاجةً وعوزًا»(30). لقد نظرت الوثيقة في مقدمتها إلى الآخر بوصفه شريكًا، والشراكة هذه لا يجب أن تنحصر باللقاء الأخوي/ الديني والروحي، بل تستدعي مساعدة كل إنسان بحاجة إلى العون، بصرف النظر عن عرقه أو إثنيته أو دينه. ترتكز المسيحية والإسلام على قيم الرحمة بين بني البشر، ويمكن ملاحظة ذلك في الأناجيل والقرآن الكريم، وصحيح أن تاريخ الديانات مشوب بالعنف والصراع العقائدي، لكن بين طيات هذا التاريخ وفي مساراته مساحات مضيئة، خارج مقولات التأكيدات المطلقة بامتلاك «الحقيقة الدينية» التي سُفكت من أجلها الدماء، إبان الحروب الدينية في أوربا، والصراعات الإسلامية– الإسلامية، أو ما يُعرف بالصراع السُّني- الشيعي الذي دخل منذ عام 2003م في مرحلة جديدة من الاحتداد المذهبي والتشنج(31).

تشدد الوثيقة على أن الله «خلق البشر جميعًا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام»(32)؛ وتدعو «كل مقتدر وميسور» إلى مد يد العون للفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين «للتخفيف عنهم». ثمة إقرار ديني بأن جميع البشر متساوون، وهذه مسألة ليست بعيدة من روحية المسيحية، دينيًّا وعقائديًّا، وقد ثبت إصدار وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني هذا التوجه، وليست بعيدة من الإسلام الذي ساوى بين جميع البشر، فلم يضع القرآن تراتبية أو أفضلية على أساس الأعراق، وإنما على أساس درجة الإيمان، وحضّ على ثقافة الاختلاف كما هو واضح في هذه الآية القرآنية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (سورة الحجرات – الآية 13).

يعدّ مبدأ التعدد ركنًا رئيسًا من أركان الإسلام القرآني، والرسالة الأصيلة للمسيح والكنيسة هي ملاقاة الغريب/ الآخر واحتضانه ومحبته. إن منظومة القيم الداعية إلى مساندة من هم بحاجة تشكل جزءًا أصيلًا من الخطاب المسيحي والإسلامي، وقد يرى بعضٌ أنها تشكل للإسلام ثورة، على اعتبار أن الزكاة والصدقات(33) تنحصران في أبناء الدين نفسه، لكن نظام التكافل ومساعدة غير المسلمين واسع، بتوسيع الصدقات تحت عناوين «الفقير والمسكين وابن السبيل» التي وردت في القرآن كما ورد في سورة التوبة﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.

لفتت الوثيقة إلى مسألة أساسية حين تطرقت إلى المُهجّرين والنازحين، وهذه قضية شديدة الأهمية، وخصوصًا المهاجرين غير الشرعيين الهاربين من جحيم الحروب في الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أوربا. اتخذت الحكومات الأوربية تدابير قاسية إزاء المهاجرين، كما أن أحزاب اليمين المتطرف استغلت هذا الملف في أجندتها السياسية(34)، على طرف نقيض من الخطاب الذي رفعه البابا فرنسيس الذي دعا في مناسبات عدة لتوفير ميناء آمن لهم واستضافتهم. وفي عظته بمناسبة اليوم العالمي للسلام الذي تحتفل به الكنيسة الكاثوليكية في الأول من يناير/ كانون الثاني عام 2018م، قال: «من الضروري أن يكون هناك التزام لدى الجميع، بما في ذلك المؤسسات المدنية والمنظمات المعنية بالتعليم والشؤون الاجتماعية والكنسية، من أجل ضمان مستقبل آمن للاجئين والمهاجرين وكل فرد»(35). ودعا البابا في خطابه خلال تسلم جائزة «شارلمان» في الفاتيكان، عن الاتحاد الأوربي، عام 2016م، الأوربيين إلى بناء الجسور وهدم الجدران التي بُنيت لإقصاء المهاجرين، وندد في مناسبات عدة بلامبالاة العالم إزاءهم.

دعت الوثيقة قادة العالم وصُنّاع السياسات الدولية والاقتصاد العالمي للعمل «جديًّا على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فورًا لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهده العالم حاليًّا من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي»(36). لا تطرح هذه الدعوة هنا سياقًا جديدًا وتعدّ خطابًا تقليديًّا اعتادت أن تطلقه المؤسسات والمرجعيات الدينية لدى الفاتيكان والأزهر، ولكن الجديد فيه أقله للجانب الإسلامي المتمثل بالأزهر، توجيه الوثيقة الدعوة «للمفكرين والفلاسفة ورجال الدين والفنانين والإعلاميين والمبدعين في كل مكان ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وليؤكدوا أهميتها كطوق نجاة للجميع، وليسعوا لنشر هذه القيم بين الناس في كل مكان»(37). عمومًا، كانت علاقة الأزهر بالمفكرين والفلاسفة والفنانين متوترة، خصوصًا في القضايا الدينية التي تتصادم مع الإسلام. الجدير بالذكر أن الأزهر أصدر مجموعة من الوثائق بعد ثورة «25 يناير» 2011م، من بينها «وثيقة الأزهر حول منظومة الحريات الأساسية» الصادرة عام 2012م، كان للمثقفين والمفكرين دور في صوغها، وجاءت بمنزلة نص مرجعي يسهم في حماية الحريات الأساسية، ووازن بعضٌ بينها وبين وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني لجهة ثوريتها واحترامها لحرية العقيدة ورفض التكفير. جاء في الوثيقة: «تعتبر حرية العقيدة، وما يرتبط بها من حق المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات حجر الزاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولة بثوابت النصوص الدينية القطعية وصريح الأصول الدستورية والقانونية (…) ويترتب على ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسببه»(38).

قام شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب بخطوات حثيثة لمصالحة الإسلام مع العالم، على الرغم من الصعوبات التي تعترضه من جانب «حُرّاس العقيدة»، ولا شك أن مجموعة الوثائق التي أطلقها بدءًا من «وثيقة مستقبل مصر» 2011، و«بيان إرادة الشعوب العربية» 2011م، و«وثيقة القدس» 2011م، و«وثيقة الأزهر لنبذ العنف» 2013م، و«إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك» 2017م، تشكل أرضيةً صلبةً وانطلاقة حقيقية من داخل مرجعية دينية تقليدية، وأتت «وثيقة الأخوة الإنسانية» استكمالًا لسلسلة وثائق الأزهر التاريخية.

إن المجتمعات الأوربية وبعد حقبة ما بعد الحداثة تواجه تضخم النزعة الفردانية ومركزية الأنا وهشاشة الروابط الأسرية. لفتت الوثيقة إلى عدد من الكلمات المفتاحية: «الضمير الإنساني»، و«إقصاء الأخلاق الدينية»، و«النزعة الفردية»، و«الفلسفات المادية». تطرقت وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني(39) إلى المخاطر الناجمة عن النزعة الفردانية والفلسفات المادية -حين لفتت إلى تفشي عبادة الذات وعبادة الملذات الجسدية وعبادة المال- ويعكس التحذير هنا من جانب الكنيسة الكاثوليكية والأزهر خطابًا دينيًّا، يهدف إلى التشديد على أهمية «الأخلاق الدينية» التي تواجه اليوم بروز ظواهر جديدة تتمثل في تبدل الرؤى تجاه العديد من القيم الاجتماعية والأخلاقية بدفع من «النسبوية الأخلاقية» (Moral Relativism)(40). والحال نطرح الأسئلة الآتية: ألا تسهم مجتمعات ما بعد الحداثة في أوربا في نمو معايير أخلاقية جديدة تؤدي إلى إعادة تشكيل الأخلاقيات الكلاسيكية؟ هل الفتوحات العلمية في الغرب خصوصًا في مجالات الطب والفيزياء والتكنولوجيا تحتم فعلًا «أفول الدين» و«موت الإله» مقابل تأليه العقل البشري، أم إنه علينا الأخذ بمقولات ما بعد العلمانية التي أصبحت تعترف بهامش الدين وحضوره في الفضاء العام؟ إذا كان الغرب الأوربي يعاني تبعات الفلسفات المادية، فإن المجتمعات العربية والإسلامية ما زالت تعاني الحجمَ الضاغط للدين: فهل يؤشر هذا على حضور عالمين متقابلين متناقضين في فهم العالم؟ أليس بالإمكان الحديث عن ديانة الضمير الفردي مقابل الأخلاق الدينية التي أشارت إليها الوثيقة؟ هل يمكن إعادة أحد أسباب أزمات عالمنا اليوم إلى إقصاء الأخلاق الدينية؛ وكيف نفهم تحذير الفاتيكان والأزهر من المخاطر الناجمة عن النزعة الفردية(41) التي تطبع منظومة الأخلاق المعاصرة؟

البابا وشيخ الأزهر يوقعان وثيقة الأخوة

يميز عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي في كتابه «أفول الواجب، الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة»(42) بين «المجتمع الأخلاقي» و«المجتمع ما بعد التخليقي»؛ الأول يرمز إلى وجود مطلقات أخلاقية، والمقصود بالمطلقات هنا معايير قيمية من حق وباطل مستمدة من مصدر ذي شرعية معترف بها. أما المجتمع ما بعد التخليقي، فيصف المجتمع الذي تحرك أفراده منطلقات وغايات غير متجاوزة، أي مادية بحتة، تسعى إلى تحصيل منفعة آنية، وتستند إلى معايير عقلانية تخاطب النزعة الفردانية لدى أفراد المجتمعات المعاصرة. يوضح ليبوفتسكي بنباهة، أن معالم الخطاب الأخلاقي المعاصر الذي مبناه على المبادئ السائدة في هذا العصر من مساواة وحرية فردية، والذي يتوجه في الوقت ذاته إلى النزعة الفردانية البراغماتية المتفشية في المجتمعات، فيرى أن مثل هذا الخطاب هو الخطاب الوحيد القادر على معالجة مشكلات المجتمعات التقنية الحديثة، فهو من جهة لا يطالب بإهمال الذات ونكرانها، كما أنه لا يبني مُثلًا مطلقة يصعب على الروح البراغماتية فهمها، ومن الجهة الأخرى، لا يعتمد على فرض السياسات من جانب أي سلطة وهو ما يمثل تهديدًا للحرية الفردية.(43) إن ملامح النظام الفكري في المجتمعات ما بعد التخليقية أدى إلى تحول في المحرمات الدينية الموروثة من الأزمنة التقليدية –وهذا ما نبهت إليه الوثيقة حين أشارت إلى إقصاء الأخلاق الدينية- أو الالتزامات الاجتماعية الموروثة من عصور الحداثة، إلى أمور مشروعة لدخولها في إطار الحريات الفردية(44).

تقدر الوثيقة «الجوانب الإيجابية التي حققتها» الحضارة الحديثة «في مجال العلم والتقنية والطب والصناعة والرفاهية وبخاصة في الدول المتقدمة» وتلاحظ «أن هذه القفزات التاريخية الكبرى والمحمودة تراجعت معها الأخلاق الضابطة للتصرفات الدولية، وتراجعت القيم الروحية والشعور بالمسؤولية؛ مما أسهم في نشر شعور عام بالإحباط والعزلة واليأس، ودفع الكثيرين إلى الانخراط إما في دوامة التطرف الإلحادي واللاديني، وإما في دوامة التطرف الديني والتشدد والتعصب الأعمى، كما دفع البعض إلى تبني أشكال من الإدمان والتدمير الذاتي والجماعي»(45).

ثمة تعقيبان على ما ورد في هذا المقطع؛ الأول: أشارت الوثيقة إلى تأثير العلم والتقنية (التكنولوجيا) في القيم الروحية والشعور بالمسؤولية؛ إن هذا التأثير خاصة في أوربا قويٌّ وواضح، وقد انعكس التطور التكنولوجي والعلمي، يضاف إليهما تفاقم النزعة الفردانية، في الأفراد والجماعات فبدلت من رؤيتهم لذواتهم والقيم الأخلاقية والاجتماعية في مجتمعات ما بعد الحداثة. وهنا نجد أنفسنا أمام الخلاصات المهمة التي أسس لها عالم الاجتماع البريطاني زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) (1925-2017م) في سلسلة كتبه عن السيولة وبخاصة كتابيه: «الحداثة السائلة(46)»، و«الحب السائل». يقول باومان: «ففي تحول عظيم صار المجتمع يعظّم، أيما تعظيم، المرونة في قلب الأشياء رأسًا على عقب، والتخلص منها، والتخلي عنها، فضلًا عن الروابط الإنسانية التي يسهل حلها والفكاك منها، والواجبات التي يسهل الرجوع عنها، وقواعد اللعب التي لا تدوم أطول من زمن اللعبة، فقد أُلقِيَ بنا جميعًا في سباق نَلهثُ فيه وراء كل جديد. ففي ظل السيولة كل شيء يمكن أن يحدث، لكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان»(47).

تنقلنا أطروحة باومان حول الحداثة السائلة والظواهر الناجمة عنها وفي مقدمتها النزعة الفردانية، إلى تنظير الفيلسوف ناصيف نصار الذي اجترح مفهوم «التفردن» المقابل للفردانية. فماذا يعني به؟ «التفردن البشري عملية تجري في التاريخ الاجتماعي للإنسان بفعل الشعور بالهوية الخاصة للفرد والحرص على خصوصيته وإرادة التميز عن الآخرين. إنه مسار مفتوح، ولكن ليس على خط مستقيم ووتيرة واحدة، مسار متعرج متشعب متدرج، متباطئ حينًا ومتسارع حينًا آخر، ومحوره العام إنما هو استقلالية الفرد بالنسبة للآخرين الذين يعيش معهم ولا يمكنه إلّا أن يعيش معهم. ولذلك ينبغي الوعي جيدًا بأن التفردن ليس عملية مفتوحة على اللامحدود. أصالة الفرد البشري ليست مطلقة. وهذا لا ينفي فرادته. الفرد الفريد يبني هويته وفرادته وهو محكوم بالوجود بالمعية. فالقضية إذن هي قضية تحقيق استقلاليته على القاعدة الجدلية التفاعلية الحاكمة لوجوده مع الآخرين، وليس على قاعدة المبدأ الفرداني المطلق»(48).

أشارت الوثيقة –التعقيب الثاني- إلى «التطرف الإلحادي» و«اللاديني» حين تحدثت عن المؤثرات السلبية للحضارة الحديثة في مجال العلوم، فهل يعني ذلك للفاتيكان تراجعًا عمّا ورد من مواقف تاريخية في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، حيث كان أكثر رحابة وانفتاحًا على الإلحاد واللاأدرية لجهة الفهم والاستيعاب، علمًا أن الكنيسة الكاثوليكية بعد هذا المجمع رأت أنه لا ينبغي فرض التدين بشكل قسري على أي شخص، واعترفت بحرية الاعتقاد واللاعتقاد، لهذا السبب فتح الفاتيكان مكتبًا خاصًّا لمحاورة الملحدين في أوربا وغير المؤمنين(49). من المفيد الإحالة هنا إلى المناظرة المهمة التي نُظمت بداية عام 2004م في الأكاديمية الكاثوليكية في ميونيخ، بين الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، الذي يعلن أنه ملحد، وأحد أعمدة ممثلي الكاثوليكية الأوربية الكاردينال الألماني جوزيف راتستغر (البابا بنديكتوس السادس عشر «2005-2013م») وقد تضمن النقاش التجاذب بين العلم والدين في المجتمعات ما بعد الحداثة، وما وصلت إليه الفلسفة الغربية في هذا الموضوع الحيوي خصوصًا في تنظيرات ما بعد العلمانية(50).

في وثيقة «دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم» (Gaudium et spes) يحدد المجمع الفاتيكاني الثاني موقفه من الإلحاد وجذوره من دون أن يدين الملحدين، فصحيح أن الكنيسة ترفض الإلحاد رفضًا باتًّا، لكنها «تُعلن مع ذلك بكل صراحة أن على البشر أجمعين؛ مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين أن ينكبوا على بناء هذا العالم في العدل، هذا العالم الذي يحيون فيه معًا: ولن يتم ذلك إلّا بالحوار الصريح الحكيم. فالكنيسة تأسف إذًا للتمييز في المعاملة بين مؤمنين وغير مؤمنين الذي تقومُ به بعض السلطات المدنية بطريقة ظالمة محتقرة حقوق الإنسان الأساسية. إنها تطالب للمؤمنين بالحرية العملية وبإمكان بناء هيكل الله في هذا العالم. وإنها لتدعو الملحدين دعوة إنسانية ليتفحصوا إنجيل المسيح بموضوعية تامة». إلى ذلك لم تحدد «وثيقة الأخوة الإنسانية» موقفًا واضحًا من اليهود، فهي تشير في مقدمتها إلى أن «الخلق جميعًا إخوة» وأن «الله الذي خلق البشر جميعًا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشر فيها قيم الخير والمحبة والسلام(51)»، فلا تتخذ موقفًا واضحًا من أبناء الديانات الأخرى كاليهودية والهندوسية والبوذية، علمًا أن الفاتيكان حدد البيان حول «علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية» موقف الكنيسة الكاثوليكية بشكل واضح: «إن هذا المجمع المقدس، إذ يتقصى سر الكنيسة يذكر الرباط الذي يربط روحيًّا شعب العهد الجديد بذرية إبراهيم. وتقرّ كنيسة المسيح بأن بواكير إيمانها واختبارها توجد لدى الآباء ولدى موسى والأنبياء وفقًا لسر الله الخلاصي(52)». نفترض أن مُعِدِّي «وثيقة الأخوة» من الجانب المسيحي قد راعوا الجانب المسلم، ليس كرهًا لليهود كأبناء في التوحيد الإبراهيمي، وإنما قد تكون هذه الضبابية في تحديد من هو «المؤمن» على علاقة بأسباب سياسية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالقضية الفلسطينية والعوامل السياسية المرافقة لتوقيع الوثيقة، مع أهمية التمييز هنا بين اليهود والصهيونية، ومع ضرورة الإقرار أيضًا بأن اليهودية والمسيحية والإسلامية، ديانات إبراهيمية من أصل توحيدي واحد وأنهم شركاء في التوحيد. من الأهمية أيضًا القول: إن الإسلام كانت له الأسبقية التاريخية والدينية في الاعتراف باليهودية والمسيحية، وسعى الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بداية الدعوة إلى ربط جذوره ورسالته بإبراهيم، أب التوحيد، وهذا واضح في القرآن الكريم والسيرة النبوية والمصادر التراثية(53).

٢. السياقات والتحديات المرافقة لـــ«وثيقة الأخوة الإنسانية»

أتى التوقيع على وثيقة الأخوة الإنسانية في ظروف إقليمية ودولية مضطربة، وعلى الرغم من أنها ذات طابع «أخلاقي ديني»، ولن يكون لها تأثير في الحد من الاضطرابات الجارية في العالم، لكنها تساعد على توطيد الروابط بين المؤمنين من المسلمين والمسيحيين، وتقلص من حجم التوترات المنبعثة على أسس دينية، وتطور مساحات التلاقي والعيش المشترك بينهما.

إن السياق الأهم الذي رافق هذه الوثيقة وسبقها طبعًا، يتمثل في صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوربا والعالم؛ وهي أحزاب تستند إلى الخطاب الهوياتي والنزعة العرقية وكره الأجانب والغريب، وتفيد من الدين لصناعة حضورها. في المقابل يعاني الإسلام المعاصرُ تداعياتِ العنف الديني وتفجرَ الأصوليةِ الإسلامية من داخله، ولا شك أن ثمة تقاطعات بين الإسلاميين والخطاب اليميني لجهة إقصاء الآخر والشمولية الفكرية والإفادة من جهل الجمهور ومخاوفه، والأيديولوجية العنيفة.

اتخذت أزمة المهاجرين في أوربا طابعًا عالميًّا في السنوات الأخيرة، وتعاطت معها الحكومات الأوربية بحذر ودرجات متفاوتة من القبول وتأمين الحد الأدنى من الفرص الإنسانية لهؤلاء الهاربين من أوطانهم، لأسباب عدة تتصدرها الحروب. تصدّت أحزاب اليمين المتطرف للمهاجرين، فعملت على تأجيج الكراهية ضدهم، وأسقطت الشرط الأخلاقي لقبول «المهاجر»/ الغريب واستضافته. لقد كان للفاتيكان –وما زال- مواقف تدعو إلى احتضان المهاجرين، وتوفير الظروف الإنسانية لهم، وتحدث البابا فرنسيس عنهم مرات عدة، مركزًا على الواجب الأخلاقي والإنساني.

قدم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930- 2004م) مطالعة فلسفية مهمة حول الهجرة واللجوء في بعدهما الأخلاقي، فرأى أن الضيافة قرار ينتج عن شكلين؛ الأول: الضيافة غير المشروطة (أو المطلقة) ليصف الحاجة إلى المحافظة على بيت المرء وحمايته لاستقبال الضيف، وجعل إقامته فاعلة سياسيًّا واقتصاديًّا. والضيافة غير المشروطة، عنده، هي ما يشكل القانون المطلق للضيافة. فيملي قانون الضيافة بأن يرحّب المضيف بالضيف من دون أن يطرح عليه أي سؤال، بما في ذلك اسمه وأصله، وأن يطلب منه شيئًا في المقابل مهما كانت الظروف. وهو على نحو الغفران يُمنح دون شروط، ولأن الضيافة معيار يقدم التوجيه بشأن كيفية التعامل مع الآخر، فهو يُقام على معايير الأخلاقية. وكل أخلاق عند دريدا ضيافة أولًا. تُمكِّن الضيافة، بوصفها إيماءة مقدسة، من بروز مجتمع جديد، وتذكرنا في الوقت نفسه بجوهر البشر المنفوي. فالمضيف اليوم ربما يصبح ضيفًا في الغد. غير أن الشرط المنفوي للبشر –كما يرى دريدا- غالبًا ما تهبط مرتبته إلى المهاجر الموسوم بالآخر والغريب الذي نقابله بالدولة القومية واستقرار الهوية. أما الضيافة المشروطة فتخضع لقوانين الضيافة، وتؤدي قوانين الضيافة في شرطها المتطرف إلى السيطرة على الضيف ومراقبته، وإغلاق بيت المضيف في نهاية المطاف، وبموجب هذا النوع من الضيافة يكون الضيف «طفيليًّا» يمكن أن ينتهك القواعد المحلية ويؤدي إلى تدمير البيت من الداخل»(54).

تمرُّ أوربا اليوم بــــ«أزمات صامتة» والطريقة التي أدارت بها ملف المهاجرين، تبرهن على تنامي المخاوف من «الغرباء» الذي رافقه صعود ظاهرة «الإسلاموفوبيا» في القارة الأوربية. أدت الخطابات التي رفعها اليمين المتطرف تحت شعار الثقل الديموغرافي للمسلمين، وما ينتج عنه من تبدل ومخاطر محتملة في تغيير الهويات الأوربية، إلى تأجيج العداء ضد الجاليات المسلمة، فعُمِّمتْ ثقافة الخوف منها. وقد شكلت وسائل التواصل الاجتماعي أحد أخطر المنابر الرقمية في الترويج لأيديولوجيات التباغض وإقصاء الغريب، ودفعت بعض مَنْ تأثر بمقولات اليمين –دون أن يكون هذا البعض منتظمًا أو منضويًّا داخل أي تشكل حزبي- إلى تنفيذ أعمال عنف إرهابية ضد المسلمين، كان الأعنف بينها، «حدث نيوزلندا الإرهابي» في مارس (آذار) 2019م. إن مخاطر الترويج للأفكار المتطرفة عبر الميديا الجديدة تؤدي إلى تشكل ظاهرة خطرة من «فاعلين منفردين» يرتكبون أعمال عنف باسم الأيديولوجية اليمينية(55). كانت «وثيقة الأخوة الإنسانية» قد أشارت إلى المهاجرين ودعت إلى توطيد التضامن الإنساني مع الآخر/ الغريب، وحذرت كذلك من مخاطر الانجراف إلى العنف الديني، والآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي. ندرك عن كثب أن السياساتِ غيرُ الديانات في معالجتها القضايا والملفاتِ الشائكةَ، لكن السياسة كما الدين محكومان بالبعد الأخلاقي أو المعايير الأخلاقية من أجل مساعدة الحقيقة.

قام البابا فرنسيس بخطوات إصلاحية مهمة، وهو «نمط جديد من البابوات، ما عرفت الكنيسة الكاثوليكية نظيرًا له في شخصيته ورؤيته وتطلعاته وسلوكه منذ المجمع الفاتيكاني الثاني (1962- 1965م). فحتى يوحنا بولس الثاني بابا «الإيمان والحرية» الذي كان ودودًا مع المسلمين وضد الحرب على العراق، وعاون الولايات المتحدة في تجاوز الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، ما توافرت لديه هذه الروحية الإصلاحية بداخل الكنيسة، ولا هذا التضامن العميق بالفعل مع آلام الفقراء والمعذبين في الأرض، ولا هذا الإحساس الخاص تجاه المسلمين بوصفهم الأكثر معاناة بين أمم العالم، كما أن دينهم وهو أكبر أديان العامل من حيث عدد معتنقيه، هو الأكثر تعرضًا للظلم من جانب أهل الديانات الأخرى ومن جانب الدول والشعوب الغربية على وجه الخصوص»(56).

إلى ذلك قام الإمام أحمد الطيب بتحولات جريئة في مسار الأزهر عبر إصداره أولًا، لمجموع الوثائق المعروفة بوثائق الأزهر وسعيه الحثيث لتمتين علاقته مع الأقباط والتضامن مع معاناتهم جراء تعرضهم –كما المسلمين أيضًا- لعنف الحركات الإرهابية. ويُعد «بيت العائلة المصرية» الذي أُسس عام 2011م أحد انجازات الطيب، في ملاقاة مسيحيي مصر وتأكيد العمق الوطني لأبناء البلاد على مختلف انتماءاتهم الدينية، هذا عدا إيمانه بالحوار بين أبناء الديانات. إن مسارات الإصلاح بين الفاتيكان والأزهر متفاوتة، ولكن شخصية كل من البابا والإمام من الشخصيات الدينية الاستثنائية في تاريخ المؤسستين، وثمة ضغوطات كبيرة عليهما من جهة المسؤوليات والحد من تداعيات العنف الذي يرتكب باسم الدين.

تعترض وثيقةَ الأخوة الإنسانية تحدياتٌ عدة، الأبرز من بينها ما يفرضه الإرهاب من إنهاك وانتهاك للدين أولًا، وتوظيف سياسي وحركي للدين من جانب جماعات وأحزاب هوياتية، لا ترى في الآخر سوى الغريب/ المنافس، أو العدو/ الديني ثانيًا. وإلى جانب هذين التحديين ثمة التحدي الأخلاقي، فالأخلاقيات الجديدة تعمم «النسبوية الأخلاقية» التي تهرب من القواعد الأخلاقية والالتزام والتضامن الاجتماعيين، ولعبت التقنية والتكنولوجيا في الدول المتقدمة دورًا كبيرة في تغيير العديد من القيم التي تحتويها المنظومات الأخلاقية؛ وقد لحظت الوثيقة هذه المسألة بتشديدها على إيقاظ «الأخلاقيات الدينية» والشعور بالمسؤولية. لكن مسار التطور البشري في الحقل التقني/ التكنولوجي والطبي؛ وما يصاحبه من نمو مضطرد لـــ«مجتمع الإفراط في الاستهلاك» و«حضارة الرغبة»(57)، لن يتوقف وسيترك في المستقبل مؤثرات أقوى في الأفراد والجماعات والمفاهيم والنظم الفكرية والسياسات والديانات والأخلاق.

على مستوى الحوار الديني بين المسيحية والإسلام، هناك تحديات كثيرة تعترضه؛ أهمها التوتر الناتج عن العنف الذي يرتكبه الأصوليون من الجهتين، وما يرافقه ويترتب عليه من ردود أفعال وتشنجات، قد تعيد الطرفين إلى نقطة الصفر. كما أن مساحات العيش بين الناس مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب التطرفات الدينية والسياسية، وهو ما يحتم مسؤوليات مضاعفة على الفاتيكان والأزهر.

الخاتمة

من الضروري أن يرافق الحوار الإسلامي– المسيحي، قناعات دينية وثقافية حقيقية باكتشاف الآخر، فثمة تاريخ مشترك بين المسيحية والإسلام من عدم الفهم، والجهل المتبادل؛ لذا من المفيد أن يدخل كل طرف الخبرة الدينية للطرف الآخر لكي يفهمه من الداخل، وهذا لن يؤدي إلى زعزعة الإيمان بل يسمح بالمعرفة العميقة، على اعتبار أن الديانات الإبراهيمة من أصل واحد، وهذا يعني أن المشتركات إذا عُمِلَ على توطيدها بين المؤمنين ودعاة التعارف، كثيرة وعميقة الجذور، بعيدًا من الإطلاقيات والاصطفاء الديني.

إن الإسلام اليوم مدعو للانفتاح أكثر على التعددية الدينية كما فعلت الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني، بعد أن كانت رؤيتها قائمة على امتلاك الحقيقة. هذه الدعوة تقتضي إجراء إصلاحات جادة ومؤلمة بهدف التحرر من «فقه الفرقة الناجية» و«فقه التكفير» والسير بخطى ثابتة نحو «فقه التنوير» و«إسلام الأنوار»(58) (l’Islam des Lumières)؛ أي الإسلام القادر على الانخراط في الحداثة والخروج من الجمود التاريخي الذي يتخبط به المسلمون منذ قرون، وبناء الثقة بالذات والعالم.

تطرح الوثيقة نقاشًا جادًّا أمام فلاسفة الأخلاق والمتخصصين في العلوم الإنسانية؛ إذ تشير إلى التدهور الأخلاقي وتجلياته على مستويات عدة، فتنظر إليه كما لو أنه مشكلة من مشكلات مجتمعات ما بعد الحداثة. يدفعنا هذا إلى التقدم بالتحليل الآتي: إن النسبوية الأخلاقية والتحولات المصاحبة للتطور التكنولوجي، ولا سيما مع ازدهار وسائل التواصل الاجتماعي، وضمور الدين أو حتى أفوله في الغرب؛ دفع إلى بروز ظاهرة جديدة لا تقيم اعتبارًا للضوابط والنظم العامة، أُطلق عليها مصطلح «ما بعد الحقيقة» (Post-truth) وقد عرَّفه معجم أُكسفورد بأنه: «الظروف التي تكتسب فيها الحقائق الموضوعية تأثيرًا أقل في تشكيل الرأي العام، مقارنةً بتأثير ما تفضله العواطف والقناعات الفردية، التي يتم إيثارها على الحقائق العلمية». فماذا يعني ذلك؟ إن مسيرة التقدم الحضاري والعلمي أدت إلى قفزات بشرية هائلة، وأنتجت في المقابل فلسفات ما بعد الحداثة، ظواهر خطرة تزدري الذاكرات التاريخية والتراثات وتحطُّ من حضور الهويات الوطنية والعديد من القيم الأخلاقية في الوعي الجمعي، وأثرت العولمة وثقافة السوق بشكل أو بآخر فيها. أمام هذه السيولة بات من «الواجب -كما يلاحظ الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك (Slavoj Žižek )- على مستوى بعض الصعد إيقاف التقدم والالتزام ربما بخط محافظ، يحافظ على مكاسب البشر حتى اليوم ولا يَعمِد، هكذا بإطلاق، إلى قبول ودعم أي صيرورة تحدٍّ أو ازدراء للتقاليد أو الأخلاق أو الحدود أو غيرها»(59).

يشهد الزمن المعاصر اضطرابات كثيرة نتيجة الازدواجية السياسية وغياب التوازن في السياسات الدولية، وضمور القيم الأخلاقية في إدارة العالم، والتشكلات الناتجة عن مجتمعات ما بعد الحداثة في الغرب، وشيوع ثقافة اللايقين، والتحولات في منظومات الإيمان الديني، وتآكل البنى الاجتماعية التقليدية ومبادئها التي يتقدمها التضامن والتآخي، وانتشار اللامبالاة أمام المآسي البشرية، وارتفاع منسوب الأصوليات والتطرفات الدينية؛ هذا كله وغيره يترك ندوبًا في الأفراد والجماعات من مؤمنين وغير مؤمنين، ويضع أتباع الديانات والنخبة المثقفة والفاعلين في الميادين السياسية والدينية والثقافية والتربوية والمجتمعية أمام تحديات بارزة، حول أي مستقبل نصنعه؛ هذا ما نبهت إليه «وثيفة الأخوة الإنسانية» بلغة القيم الدينية، وما حذر منه علماء اجتماع وفلاسفة وأدباء من بينهم الأديب اللبناني- الفرنسي أمين معلوف في كتابه الأخير (Le Naufrage des Civilisations)(60) «غرق الحضارات».

______________________________________________________________________________________________________

هوامش:

١. باحثة وكاتبة لبنانية.

نُشرت كتب عدة حول هذا الموضوع من الجهتين: المسيحية والإسلام؛ نذكر في هذه الدراسة الكتاب المهم للدكتور عبدالمجيد الشرفي، «الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع/ العاشر» (580 صفحة)، وهو في الأساس أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، وقد تضمن تحليلًا وعرضًا مكثفًا حول الردود الإسلامية على المسيحيين (النصارى). توصل الشرفي خلال مقارنته لكتب الرد على النصارى إلى نتيجتين؛ الأولى: أن الجدل الإسلامي– المسيحي اكتملت معالمه في نهاية القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وأن الردود اللاحقة إنما كانت تردد ما كُتب في القرون الأربعة الأولى، وخصوصًا في القرنين الثالث والرابع، دون أية إضافات مهمة في التحليل والاستشهاد بالنصوص أو التعمق في اتجاهات سلكها الأقدمون. أما النتيجة الثانية فهي أن الحروب الصليبية، كانت عديمة التأثير أو تكاد في محتوى كتب الجدل الديني من الجانب الإسلامي، وإن كانت سببًا مباشرًا في تعددها. يورد الشرفي في كتابه قائمة بأبرز الردود الإسلامية على النصارى في القرون الأربعة الأولى، التي من بينها: «رسالة الهاشمي إلى الكندي»، و«الردّ على النصارى» لعلي بن ربن الطبري، و«مقالة في الردّ على النصارى لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي»، و«الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن العامري (أجرى في كتابه مقارنة بين الديانات، وبينهما المقارنة بين المسيحية والإسلام، مؤسسًا بذلك لعلم الأديان المقارن) وغيرها من الكتب التي تذخر بها المكتبة التراثية الإسلامية. أُخضعت العقائد والنصوص المسيحية التي عمل عليها المفكرون المسلمون للمعايير الإسلامية، وتركز السجال العقائدي حول عقيدة التثليت والتجسد والصلب والفداء وطبيعة السيد المسيح والتوحيد، ومن الملاحظات الدالة التي يشير إليها الشرفي أن المفكرين المسلمين سجلوا بكل اهتمام وجود عدد من الفرق النصرانية «الموحدة» أبرزها الأريوسية، ظهرت عبر التاريخ. وكانت وفيَّة للتوحيد اليهودي فالمسيحي الأصلي، إلى أن طغت الفرق «المثلثة» فأصبحت هامشية، جاء الإسلام فدخل أتباعها فيه (…)؛ لذا كانت الردود الإسلامية موجهة إلى آراء أتباع الفرق الثلاث الكبرى: الملكية والنسطورية واليعقوبية، في التثليث. انظر: الشرفي، عبدالمجيد، الفكر الإسلامي في الردّ على النصارى إلى نهاية القرن الرابع/ العاشر، الدار التونسية للنشر، تونس، 1986م؛ انظر أيضًا، قراءة هيثم مزاحم للكتاب، متوافرة على موقع حكمة الإلكتروني.

٢. راجع:

Maureen, Sullivan, The road to Vatican II: key changes in theology, Paulist Press- London New York 2007.

تقدم مورين سوليفان، الأستاذة في علم اللاهوت في كلية (St. Anselm College) في كتابها صورة عامة عن كيفية حصول التجديد اللاهوتي في المسيحية الغربية وخصوصًا المذهب الكاثوليكي. كان الفاتيكان طوال قرون معاديًا للحداثة، لكن المتغيرات التي عرفتها أوربا دفعته لأن يتخلى عن تزمته العقائدي وينفتح على العالم والعصر. تذكر المؤلفة أن الحركة الفلسفية العلمانية كانت قد اكتسحت كل أنحاء أوربا، والانقلابات الاجتماعية والاقتصادية، كانت قد غيرت حياة الناس وقلبتها رأسًا على عقب. وتاليًا، لم يعد ممكنًا أن يبقى الفقه المسيحي القديم على حاله كما كان في العصور الوسطى. لهذا السبب دعا البابا يوحنا الثالث والعشرون كبار رجال الدين المسيحيين إلى الاجتماع في روما عام 1962م من أجل مناقشة هذه القضايا الحساسة وإيجاد حل للصدام الحاصل بين الكنيسة والعالم المعاصر. في ضوء المتغيرات التي عرفتها أوربا أصبحت الكنيسة منقسمة قسمين كردِّ فعل عليها؛ قسم يرفض التجديد اللاهوتي وتطوير العقيدة بحجة أن ذلك يعدّ بدعة وخروجًا على الدين، وقسم يقول الضد. وقد انتصر التيار الليبرالي داخل الكنيسة الكاثوليكية. وكان أقطاب التيار الليبرالي الذي يريد التخلي عن الفقه القديم وبلورة فقه جديد يليق بالعصور الحديثة هم أشخاص من نوع: إيف كونغار (Yves Congar) (1904- 1995م) اللاهوتي الفرنسي العقلاني الشهير، وجوزيف راتزنغر (Joseph Ratzinger) (1927م) أي البابا بنديكتوس السادس عشر، وآخرين عديدين.

٣. راجع أوراق المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان حول «علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية».

٤. راجع:

Stark, Rodney, the Victory of Reason, How Christianity led to Freedom, Capitalism and Western success, random House Trade, 2006.

٥. الوثيقة هي حصيلة المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية الذي نظمه مجلس حكماء المسلمين في أبوظبي.

٦. السيد، رضوان، «بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر في دولة الإمارات»، صحيفة الشرق الأوسط، 8 فبراير/ شباط 2019م، العدد (14682).

٧. نُشرت مئات الكتب حول العلاقات الإسلامية– المسيحية، نحيل هنا إلى ورقة مهمة تتضمن ببليوغرافيا لأهم الكتب والمجلات والمقالات التي صدرت بين عامي 1960- 1966م، في اللغات الأوربية حول العالم العربي والإسلام، أعدَّها الأب جورج قنواتي (1905- 1994م)، وتحتوي على مجموعة من المراجع حول الحوار الإسلامي- المسيحي. وقد بُوِّبَتِ الورقة بشكل علمي ووُضِعَ لها فهرس للأعلام لتسهيل عملية البحث، إضافة إلى تقديم لها. راجع:

Anawati, Georges, Bibliographie Islamo – arabe ; Livres et Articles sur L’islam et L’arabisme parus, en langues occidentales, durant la période 1960-1966, Institut dominicain d’études orientales du Caire, Volume ; 9, 1967, pages ; 143- 213.

٨. من المفيد الإشارة إلى أنه منذ الحملة الصليبية الرابعة، أدرك البيزنطيون أن الخطر الأكبر يأتي من الغرب، فقد تحولت تلك الحملة الموجهة إلى مصر لحملة معادية للإمبراطورية البيزنطية؛ لتدمير منافسي البندقية في التجارة في البحر المتوسط. وعلى الرغم من الطابع العسكري الذي سيطر على العلاقات البيزنطية– التركية إبان العصر الوسيط، فتمخض عن هذا التاريخ ظهور فرق دينية/ توفيقية إسلامية– مسيحية، في الأناضول، نمت غالبًا عبر الطرق الصوفية التي دخلت الوسط التركي الأناضولي، لا سيما المولوية، التي أسسها جلال الدين الرومي، حيث ناضلت مثلما فعل السكونيون ضد التمسك بالشكل التقليدي للإيمان، وكانت مفتوحة لغير المسلمين، وسمحت بالانتقال من المسيحية إلى الإسلام حيث بلغت مرونتها حدًّا يمكِّن المرء من أن يصبح تلميذًا للرومي من دون التخلي عن المسيحية. وفي كتابه «مسيحيو الشرق والإسلام في العصر الوسيط» يشير المؤرخ الفرنسي الراحل ألان دوسلييه إلى ملاحظة ثورية تعبر عن أنساق هذه الأنماط الدينية التوفيقية التي شهدتها هذه الحقبة التاريخية، فيتحدث عن معطيين؛ الأول: ما تتحدث عنه المصادر التركية عن مسلمين كانوا يحرصون على تعميد القساوسة الذميين لأبنائهم قبل ختانهم، خصوصًا أن نشر أطروحات توفيقية لم يقتصر على المولوية، ففي نهايات القرن الثالث عشر توسع نشاط الحاج بكتاش، وعُدَّ شخصية قريبة من المسيحيين. والثاني: تطور هذا النمط في العصر العثماني دفع البكتاشيين إلى أن يضموا إلى فرقتهم قديسين مسيحيين شعبيين، وعلى رأسهم القديس جورجيوس، فيما بجل مسيحيو سيناسوس الحاج بكتاش تحت اسم القديس خارالامبوس. راجع: دوسلييه، ألان، مسيحيو الشرق والإسلام في العصر الوسيط، ترجمة رشا الصباغ ورندة بعث، مراجعة جمال شحيّد ومروان الداية، دار الساقي، بيروت، ورابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى، 2014م). فتح التصوف في الإسلام مساحات واسعة تجاه الديانات لا سيما عند الحركات الصوفية مثل المولوية والأكبرية (نسبة إلى ابن عربي)، التي نظرت إلى الدين التوحيدي كأصل واحد، واليوم يزداد الرهان الثقافي على التصوف لإنقاذ الإسلام من الظاهرة العنفية وإخراجه من قبضة الفقهاء، محتكري الحقيقة الدينية، وقد دعا العديد من الباحثين والكتاب العرب إلى جعل التصوف جسرًا أساسيًّا لتجديد النزعة الإنسانية في الدين الإسلامي، ضد الأصوليات والسلفيات والاتجاهات النصوصية الرافضة لحركية التجديد والاجتهاد والتأويل وموجبات الحداثة.

٩. السماك، محمد، الفاتيكان والعلاقات مع الإسلام، دار النفائس، نسخة إلكترونية، ص 29-30.

١٠. المرجع نفسه، ص 31-32.

١١. انعقد المجمع الفاتيكاني الأول بدعوة من البابا بيوس عام 1869م كردِّ فعل (من بين عوامل أخرى) على «مجلس العلماء الكاثوليك» التابع للأسقفية الألمانية؛ الذي بدأ أعماله في 28 سبتمبر/ أيلول 1863م في ميونيخ. وقد شكل العالم واللاهوتي الأب يوهان جوزيف إغناز فون دولنغير (Johann joseph Ignaz von Döllinger)، القوة المحركة وراء هذا المجلس؛ إذ جاءت كلمته الافتتاحية تدعو اللاهوت الكاثوليكي دعوة جوهرية إلى التحرر من أغلال «الفلسفة المدرسية» والالتزام بالبحث التاريخي بالطريقة نفسها التي يتبعها اللاهوت الألماني. راجع: اللحام، كريم، موقف الكنيسة الكاثوليكية من الإسلام بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، سلسلة ورقات طابة، العدد 2، يوليو/ تموز 2008م، مؤسسة طابة، أبوظبي، ص 7.

١٢. المرجع نفسه، ص 7.

١٣. إن الأدبيات والحوليات والوثائق الأوربية المعنية بالدين الإسلامي، كانت حتى القرون الوسطى تستخدم مصطلحات مثل: «الإسماعيليون» و«السراسنة» (Sarrasins)/ (Saracen) أو «الهاجريون» حين كانت تتحدث عن المسلمين، ولم تستعمل عبارتي «مسلم» أو «إسلام» قبل القرن السادس عشر. يلاحظ المؤرخ التونسي هشام جعيط أن الغرب نظر إلى الإسلام وفقًا لرؤيتين: رؤية العالم الشعبي، ورؤية العالم المدرسي. الأولى: تغذت من الحروب الصليبية، والثانية: من المواجهة الإسلامية– المسيحية في إسبانيا، إحداهما انتشرت على المستوى الخيالي، والأخرى على المستوى العقلاني. راجع: جعيط، هشام، أوربا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة، دار الطليعة، بيروت، 2001م.

١٤. وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية، مرجع سابق.

١٥. أخذ الأب يواكيم مبارك على نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني أنها تطرقت بإيجاز شديد للمسلمين، وقد فصّل وجهة نظره هذه في كتابه (Recherches sur la pensée Chrétienne et L’Islam dans le temps Modernes et A L’époque contemporaine) “أبحاث في الفكر المسيحي والإسلام في الأزمنة الحديثة والتاريخ المعاصر؛ للمزيد انظر:

Moubarac, Youakim, Recherches sur la pensée Chrétienne et L’Islam dans le temps Modernes et A L’époque contemporaine, Publication de L’université libanaise, Sections des études Historiques, Beyrouth, 1977, pp 398-405.

انظر أيضًا: فرج، ريتا، الأب يواكيم مبارك: «الحوار الإسلامي– المسيحي في المجال الإبراهيمي»، المؤتمر الدولي الثالث «المصادر التاريخية لمسيحيي الشرق الأوسط»، المركز الثقافي الفرنسيسكاني، القاهرة، 15 – 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018م. في السياق من الضروري الإشارة إلى الدور الكبير الذي قام به، الأب عادل تيودور خوري، في مجال الحوار الإسلامي– المسيحي والعيش المشترك، على مستوى التأليف والنشاط الحواري، نذكر على سبيل المثال كتابه: مسيحيون ومسلمون في سبيل التضامن والمودة: انطلاقة جديدة من أجل عيش مشترك في ظل المودة (المكتبة البولسية، لبنان، 2011م).

١٦. المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، غير المسيحيين، (4140- 16).

١٧. وضع الأب كوك كتابين في الفرنسية هما:

L’Islam en Ethiopie des origines au XVIe siècle (Paris 1981); Islamisation de la Nubie Chrétienne (Paris 1986).

١٨. أثرت شخصيات ثقافية عدة في البابا بولس السادس من أجل الانفتاح على الإسلام، ولعب المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون دورًا كبيرًا، علمًا أنه كان محبًّا للتراث الإسلامي الديني وله صداقات واسعة مع كبار رجال الدين والمثقفين المسلمين مشرقًا ومغربًا. والأمر نفسه ينطبق على تلميذه جاك بيرك. وماسينيون هو الذي نصح البابا بولس السادس بالانفتاح على الإسلام وتغيير النظرة التقليدية السلبية. ولكنه لم يكن الوحيد. فقد لعب الدور ذاته لويس غارديه صديق عالم الإسلاميات الجزائري محمد أركون ومؤلف كتب مشتركة معه. انظر: صالح، هاشم، «من لاهوت التكفير إلى لاهوت التنوير»، جريدة الاتحاد الإماراتية، 31 يناير (كانون الثاني) 2019، على الرابط الآتي:

https://www.alittihad.ae/article/6663/2019/

١٩. وضعت الدراسة في الأساس لتنفيذ مقررات المجمع المسكوني الثاني، وحملت عنوان:

Orientations pour un Dialogue entre Chrétiens et Musulmans, 1970.

٢٠. إلى جانب هذه الهيئة الحوارية هناك «المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية»، وهو يعد من أبرز المؤسسات الكاثوليكية المعنية بالحوار مع المسلمين، تعود الجذور الأولى لهذا المعهد إلى مركز أسّسه مُرسَلو إفريقيا (الآباء البيض) عام 1926م في تونس- العاصمة، بهدفِ تنشئة قساوسة ورهبان مسيحيّين على الخدمة في مختلف أنحاء العالم ذات الصلة الوثيقة بالمسلمين. عام 1931م، أُطلق على المركز اسم معهد الآداب العربيّة. وفي عام 1949م فُصِلَ التدريس عن بقية نشاطات المعهد التي كان لها علاقة مباشرة بالثقافة التونسيّة. وهكذا أُقيمت في منوبة دارٌ للدراسات تُعنَى بتدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية. وما إن حلّ عام 1960م حتى استحالت تلك الدار معهدًا –من خلال مرسوم صدر عن مجمع المعاهد اللاهوتيّة والجامعات– عُرف بالمعهد الحبريّ للدراسات الشرقيّة. وفي عام 1964م نُقل المعهد إلى روما متخذًا له –في الوقت ذاته– اسمًا جديدًا هو: المعهد البابويّ للدراسات العربيّة (IPEA)، تمييزًا له عن المعهد الحبريّ الشرقيّ الذي كان موجودًا في روما. راجع: موقع المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية، نبذة تاريخية، على الرابط المختصر الآتي:

http://cutt.us/TWM6g

٢١. السماك، محمد، الفاتيكان والعلاقات مع الإسلام، مرجع سابق، ص 33-34. على الرغم من موافقة أكثرية المجلس عليها، لقيت هذه الدراسة معارضة، ولما اصطدمت بموافقة الأكثرية انشقت عن الكنيسة، وهو أمر نادر الحدوث، وتجسد هذا الانشقاق بــ«جمعية القديس بيوس العاشر»، وذلك نسبة إلى البابا بيوس العاشر الذي توفي عام 1914م، والذي كرسه البابا بيوس الثاني عشر قديسًا عام 1954م، وذلك نظرًا للإصلاحات المهمة التي حققها. وتبرر الجمعية معارضتها لهذه التعاليم وانشقاقها عن الكنيسة، بأن مقررات المجمع الفاتيكاني كانت من الليبرالية بحيث إنها خرجت على أساس العقيدة وثوابتها، ولا تزال هذه الجمعية قائمة حتى اليوم. وقد حاول البابا بنديكتوس السادس عشر استعادتها إلى حضن الكنيسة الأم؛ فعرض في شهر مايو/ أيار 2012م على قادتها مواقع استرضائية في مؤسسات دولة الفاتيكان، مقابل إعلان قبولهم بتعاليم المجمع الثاني، إلا أن هؤلاء تمسكوا بموقفهم المعارض والرافض لهذه التعاليم. المرجع نفسه، ص 35-36.

٢٢. زار البابا بولس السادس القدس وعمان وبيروت في يناير/ كانون الثاني 1964م، حيث أكد في رسالة أخوية وجهها إلى المسلمين على «احترام أولئك الذين يعتنقون الديانات التوحيدية، والذين يعبدون معنا إلهًا حقيقيًّا وواحدًا». السماك، محمد، مقدمة إلى الحوار الإسلامي– المسيحي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1998م، ص 15.

٢٣. اللحام، كريم، موقف الكنيسة الكاثوليكية من الإسلام بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، مرجع سابق، ص 31-32.

٢٤. المرجع نفسه، ص 33.

٢٥. السماك، محمد، مقدمة إلى الحوار الإسلامي– المسيحي، ص 16.

٢٦. انظر: رسالة الفادي –1990م- البابا يوحنا بولس الثاني، موقع سلطانة الحبل بلا دنس، على الرابط الآتي:

http://www.peregabriel.com/saintamaria/node/4803

انظر أيضًا: ميشال، توماس (اليسوعي- الأب)، بناء ثقافة الحوار، ترجمة: ناصر محمد ضميرية، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 2010م، ص 183- 184.

٢٧. لن تغطي القراءة والتعقيب كل ما ورد في الوثيقة، إنما سنركز على نقاط محددة رأينا أنها –وفق وجهة نظرنا- الأقرب إلى اهتمامنا، فالوثيقة تثير أفكارًا ومواقف إشكالية في الدين والعائلة والأخلاق والإيمان والإلحاد والعدالة والتعصب والطفل والمرأة. فيما يتعلق بموقف الوثيقة من المرأة، لاحظنا أنه ثمة نزعة أبوية دينية في النظر إلى حقوقها، خصوصًا حين تنص الوثيقة على «وجوب العمل على تحريرها من الضغوط التاريخية والاجتماعية المنافية لثوابت عقيدتها وكرامتها»، وعليه لا ينظر معدو الوثيقة إلى ما قدمته منظومة الحقوق المدنية والوضعية من حقوق للنساء في مجالات عدة. نشير في هذا السياق إلى رسالة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني: «كرامة المرأة» (Mulieris dignitatem)، في مناسبة السنة المريمية، وقد عُدت هذه الرسالة انجازًا مهمًّا وايجابيًّا في رؤية الكنيسة الكاثوليكية تجاه النساء. أما ما يخص الإسلام فهناك حراك ثقافي دائم فيما يتعلق بوضعية المسلمات، وثمة تجاذب بين النظرة التقليدية والنظرة الحداثية، ولكن الأزهر بشكل عام يحمل نظرة تقليدية/ أبوية تجاه المرأة، وأصدر عام 2013م وثيقة عن المرأة أكد فيها مبدأ المساواة بين الجنسين التي أقرها القرآن الكريم.

٢٨. نشرت الوثيقة بالعربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية.

٢٩. أصدر الأزهر بعد «ثورة 25» يناير «وثيقة الأزهر حول الحريات الأساسية».

٣٠. وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، موقع الفاتيكان، المقدمة، مرجع سابق.

٣١. لا يصحُّ تجاهُلُ التاريخيّات والمذهبيّات في التوتُّر الحاصل خلال السنوات الأخيرة بين السنّة والشيعة. لكنْ من المؤكَّد أنه لا علاقةَ لما يجري اليوم بما كان عليه الأمر بين العثمانيين والصفويين، أو بين الحنابلة والشيعة ببغداد في القرن الخامس الهجري. راجع: السيد، رضوان، «العرب والإيرانيون والعلاقات العربية– الإيرانية في الزمن الحاضر»، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2014م.

٣٢. وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، مرجع سابق.

٣٣. تنقسم الزكاة قسمين: زكاة واجبة، وصدقة تطوع مستحبة. أما الزكاة الواجبة فقد نص العلماء على أن لا حظ فيها لغير المسلمين إلا أن يكونوا من المؤلفة قلوبهم. قال الموفق بن قدامة في (المغني): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن زكاة الأموال لا تعطى لكافر. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئًا؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «أعلمهم أن عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم» (متفق عليه)، فخصهم بصرفها إلى فقرائهم كما خصهم بوجوبها على أغنيائهم. وأما صدقة التطوع فلا تختص بالمسلمين، بل يجوز صرفها إلى غير المسلمين، إذا كان هناك مصلحة راجحة، مع أن المسلمين أولى بها. ومما استدل به على هذا، ما ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. قال ابن عباس: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بألّا يُتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}. فأمر بالصدقة على كل من سألك من كل ذي دِينٍ. حكم صرف جزء من الزكاة على أهل الكتاب، عبدالله بن عبدالعزيز العقيل، على الرابط الآتي: http://iswy.co/e3ugt

٣٤. يمكن أن نتخذ من الخطاب الذي ترفعه زعيمة التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقًا) في فرنسا، مارين لوبان مؤشرًا خطيرًا حول مخاوف اليمن المتطرف من المهاجرين، بالنسبة لها، فإن المؤسسات الأوربية ليست مسؤولة عن الهجرة فحسب، بل إنها تهدد رفاه المواطنين المحليين، المعتبرين ثقافيًّا وتاريخيًّا أكثر شرعية، وكذلك التطور الاقتصادي والاجتماعي للأمم الأوربية: «الاتحاد الأوربي لا يُدافع عن أوربا، إنه يُسقط الفكرة الأوربية: بل أسوأ إنه ينظم دمارها بإغراقها بموجات الهجرة بخضوعه للطغمة المالية، بتراجع أنظمة الحماية الاجتماعية عندنا، بدمار هويتنا، ومن خلال معاهدات التبادل الحر الذي ينظم نهب أراضينا واقتصادنا». راجع: سنيجر، حواس: «فرنسا والهجرة: الدرب الملوكي لشعبويات اليمين المتطرف»، ترجمة: عفيف عثمان، في: صناعة الخوف: رهاب اليمين المتطرف والشعبوية، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، الكتاب السادس والأربعون بعد المئة، فبراير (شباط) 2019م، ص 149-150.

٣٥. البابا فرنسيس في اليوم العالمي للسلام: لا تمحوا آمال المهاجرين، وكالة رويترز، 1 يناير (كانون الثاني) 2018، على الرابط الآتي:

https://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKBN1EQ105

٣٦. وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، مرجع سابق.

٣٧. المرجع نفسه.

٣٨. نص وثيقة الأزهر للحريات، الأزهر الشريف مكتب شيخ الأزهر بيان الأزهر والمثقفين عن منظومة الحريات الأساسية، النص متوافر على مواقع إلكترونية عدة من ضمنها موقع الأزهر.

٣٩. للإحاطة بوثائق المجمع الفاتيكاني الثاني ومواقفه من قضايا جوهرية نحيل على: خليفة، عبده (المطران)، الإنسان في المجمع الفاتيكاني الثاني، موسوعة عظماء المسيحية في التاريخ، دراسات متخصصة، منشورات المركز الرعوي للأبحاث والدراسات، الدكوانة، لبنان، الطبعة الأولى، 1997م (205 صفحات).

٤٠. ندرك أن الأطلاقيات أنتجت أضرارًا كبيرة في التاريخ البشري، وأن ثمة معايير مختلفة بين الحق والخطأ لدى الجماعات تتبدل تبعًا لمسارات تطورها، وهو ما يؤدي إلى إنتاج نظم أخلاقية جديدة، لكننا ننبه بالمقابل إلى أن المجتمعات الأوربية، وتحديدًا إنسان ما بعد الحداثة، والإنسان الرقمي، أو «الإنسان السائل» – تماهيًا مع أطروحات باومان في سلسلة السيولة «تخلى عن العديد من القيم الأخلاقية لا سيما التضامنية، نتيجة نزوعه الواعي واللاواعي تجاه الفردانية، والانكماش على الذات. يمكن ملاحظة التبدلات الأخرى في منظومة القيم الأخلاقية على مستوى اجتماعي أوسع، وقد قام بتحليل هذه الظاهرة علماء اجتماع وفلاسفة كثر.

٤١. كنا نحبذ لو استخدم معدو «وثيقة الأخوة الإنسانية» مصطلح «النزعة الفردانية» (Individualism) في الترجمة العربية، بدل النزعة الفردية، فالأول مصطلح علمي وفلسفي أكثر استخدامًا في الأدبيات الفلسفية المعنية بالفلسفة الفردانية.

٤٢. انظر: جيل ليبوفتسكي، أفول الواجب، الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة، ترجمة وتحقيق: البشير عصام المراكشي، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، الطبعة الأولى، 2018م. انظر أيضًا: محمد، هبة الله، عرض لكتاب أفول الواجب، الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة، موقع مركز نماء للبحوث والدراسات.

٤٣. المرجع نفسه.

٤٤. المرجع نفسه.

٤٥. وثيقة الأخوة الإنسانية، مرجع سابق.

٤٦. يقول باومان في تعريفه للحداثة السائلة ما يلي: «ما قررت أن أسميه بوضوح الحداثة السائلة إنما هو الإيمان المتنامي بأن التغير هو الثبات الوحيد، وأن اللايقين هو اليقين الوحيد؛ إذ كانت الحداثة في مئة العام الماضية تعني محاولة الوصول إلى حالة نهائية من الكمال، أما الآن فإن الحداثة تعني عملية تحسين وتقدم لا حد لها، من دون وجود حالة نهائية في الأفق، ومن دون رغبة في وجود مثل هذه الحالة». انظر: باومان، زيغمونت، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو حجر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 26.

٤٧. المرجع نفسه، ص 30.

٤٨. نصّار، ناصيف، النور والمعنى، تأملات على ضفاف الأمل، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2018م، ص 106-107.

٤٩. راجع:

Maureen, Sullivan, The Road to Vatican II: key Changes in Theology, ibid.

٥٠. هابرماس، يروغن، راتسنغر، جوزيف، جدلية العلمنة: العقل والدين، تعريب وتقديم: حميد لشهب، دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2004م.

٥١. وثيقة الأخوة الإنسانية، مرجع سابق.

٥٢. في «دستور عقائدي في الكنيسة» شمل الخلاص المسلمين واليهود «وأيضًا أولئك الذين دون خطأ منهم، يجهلون إنجيل المسيح وكنيسته، إنما يفتشون عن الله بنية صادقة، ويجتهدون في أن يكملوا بأعمالهم إرادته». انظر أيضًا: وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية، مرجع سابق.

٥٣. من المفيد هنا الإحالة إلى الجهد العلمي الكبير الذي قام به المؤرخ التونسي هشام جعيط في ثلاثيته عن السيرة النبوية التي استغرقت عشرين عامًا: «الوحي والقرآن والنبوة»، و«تاريخية الدعوة المحمدية في مكة»، و«مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام». في الجزء الثالث يشير جعيط إلى أن «محمدًا لم يكن راغبًا في النزاع مع اليهود، إنما كان يتمنى بكل قواه أن يهتدوا إلى الإسلام، طالما أن القرآن جاء مصدِّقًا للتوراة ويعترف بنبوة موسى، وطالما أن الإله الواحد هو المقصود هنا وهناك، لقد قام الرسول بمحاولات ترغيبية إزاء اليهود: صوم عاشوراء، الصلاة باتجاه القدس، حثّ القرآن للشعب الذي اختاره الله على الاعتراف بالتنزيل الأخير، الذي جاء مصدقًا لوحيهم. لكن ذلك باء بالفشل، وكان فشلًا ذريعًا؛ إذ واجه الكهان والأحبار النبي برفض ساخر، وفوق ذلك أرهقوهُ بمسائل مُفخَّخة. وعلى الرغم من اعتناق نفر قليل منهم الإسلام، وعند الاقتضاء، استطاع بعضهم الاعتراف بأنه نبي الأميين؛ أي العرب الوثنيين، لكنه لم يكن في نظرهم نبيًّا حقيقيًّا». انظر: جعيط، هشام، مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام، تعريب خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2015م.

٥٤. راجع:

Jacques Derrida, Anne Dufourmantelle, Of Hospitality, Stanford University Press, 2000.

راجع أيضًا: صفوان، حمزة، «الهجرة إلى الاتحاد الأوربي والعلاقة مع الآخر الأجنبي»، في: المسلمون في أوربا: إشكاليات الاندماج وتحديات الإرهاب، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، العدد (112)، إبريل/ نيسان، 2016م.

٥٥. وهذا ينطبق على ظاهرة الذئاب المنفردة المحسوبة على التنظيمات الجهادية الإسلامية.

٥٦. السيد، رضوان، «بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر في دولة الإمارات»، مرجع سابق.

٥٧. راجع:

Lipovestsky, Gilles, Le Bonheur Paradoxal, Essai sur la société d’hyperconsommation, Folio (15 janvier 2009).

٥٨. عالم أنثروبولجيا الأديان الجزائري الفرنسي مالك شبل (1953- 2016م) هو أول من تحدث ونظَّر حول إسلام الأنوار.

٥٩. سلافوي جيجك: «الاستبداد (قد يكون) مستقبل العالم والثورة التقليدية جنون!» (مقدمة)، مونت كارلو الدولية، 21 ديسمبر (كانون الأول) 2018م، على الرابط المختصر الآتي:

http://cutt.us/GHesy

60. Maalouf, Amin, Le Naufrage des Civilisations : essai, Grasset (13 mars 2019) (336 pages).

ناجية الوريمي: التفكيك عملية ضروية تحدد ما يمكن أن يتواصل وما يجب أن يحفظ في المتاحف باحثة تونسية تقول إن الأزمة التي نعيشها اليوم ليس الدين سببها إنما تمثله المنغلق

ناجية الوريمي: التفكيك عملية ضروية تحدد ما يمكن أن يتواصل وما يجب أن يحفظ في المتاحف

باحثة تونسية تقول إن الأزمة التي نعيشها اليوم ليس الدين سببها إنما تمثله المنغلق

انشغل العديد من الأكاديميات والكاتبات العربيات في العقود الأخيرة بأسئلة الحداثة ودراسة التراث. تُرجم هذا الانشغال المعرفي بإصدار مؤلفات وإنتاج أفكار سعت إلى فهم أسباب الانسداد التاريخي الذي يعيشه العرب والمسلمون في تاريخهم المعاصر؛ وعلى الرغم من اليقظات أو النهضات الساعية إلى وضعهم على خريطة التقدم البشري في المعارف والعلوم والتحضر الاجتماعي والثقافي والسياسي، بقيت أحوالهم دون المأمول، بل ازدادت تدهورًا مع ارتدادات ما سمي بـــ «الربيع العربي»، فتفجر «المكبوت التاريخي» وطفت على السطح البنى القبلية والطائفية والعنف الديني.

تُعد ناجية الوريمي، أستاذة الحضارة العربية الإسلامية في الجامعة التونسية، من أبرز الباحثات المهتمات بإشكاليات التحديث وقراءة التراث. أولت اهتمامًا كبيرًا لتجديد الخطاب الديني ومفاهيم التسامح والاختلاف في المدونة التراثية والأدبيات العربية. ولم تغب «مسألة التنوير» في الفكر العربي المعاصر عنها، فتجدها في مقالاتها وأبحاثها شديدة الحرص على إثارة وحَفْز «العقل العربي» أو «العقل الإسلامي»، للكشف عن حقيقة «قصوره»، من دون أن تتبنى مقولة «القطيعة المعرفية»، «فالحداثة -عندها- لا تقطع مع الماضي بل تُطرح في مجتمعات لها تراث». أصدرت الوريمي مجموعة من المؤلفات من بينها: «زعامة المرأة في الإسلام المبكّر: بين الخطاب العالِم والخطاب الشعبي» (2016م)؛ «في الائتلاف والاختلاف: ثنائية السائد والمهمش في الفكر العربي الإسلامي» (2010م)؛ «حفريات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية» (2008م)؛ «الإسلام الخارجي» (ضمن سلسلة الإسلام واحدًا ومتعددًا) (2006م).

خصّت الوريمي مجلة «الفيصل» بحوار مهم تحدثت فيه عن «المؤسسات الدينية» الإسلامية وثنائية الإسلام والحداثة، وأهمية التأويل التجديدي للنصوص الدينية، والمسائل التي تُثيرها مشكلة الطابع التقليدي الطاغي على إنتاج المعنى الديني في الإسلام، إضافة إلى قضايا أخرى ما زالت تشكل مسارًا للجدال الفكري.

وفيما يأتي تفاصيل الحوار:

● بداية أود أن أستهلّ حواري معك بإشكالية تاريخية لطالما أثارت ردود أفعال ووجهات نظر متباينة. إلى أي حد يمكن لنا الحديث عن وجود مؤسسة دينية في الإسلام أو سلطة مقدسة رسمية (الإسلام الرسمي) لها قوة وقدرة رمزية مؤثرة في الديني والاجتماعي والسياسي؟ وما الوظائف التي تقوم بها في تاريخها المعاصر؟

تقتضي الإجابة عن سؤالك، أن نتّفق على معنى «المؤسّسة الدينيّة» حتّى نحدّد تبعًا لذلك وجودها من عدمه في الإسلام. فالمعنى الشائع يحصرها في مؤسّسة كهنوتيّة تكون مهيكلة تنظيميًّا وقائمة على تراتبيّة
واضحة، وعلى تقسيم دقيق للأدوار على غرار الكنيسة. وبهذا المفهوم الشكليّ –وأكاد أقول: السطحيّ- سنقول لم يعرف الإسلام المؤسّسة الدينيّة كما عرفتها المسيحيّة. أمّا المعنى الاصطلاحي الذي يقرّه علم الاجتماع الدينيّ والذي ينسحب على كلّ المجتمعات الكتابيّة بما فيها المجتمع الإسلامي، فيتمثّل في كونها هيئة من علماء الدين – مهيكلة أو غير مهيكلة – تشرف على «الدين الحقّ» وعلى تطبيق الشريعة وفق الرؤية الرسميّة للدين. وهي تعد نفسها، وتراها السلطة، الأقدر على التعبير عن «الحقيقة». ولها في المجتمع دور ثابت: هي التي تنتج المعرفة الدينيّة الرسميّة، وهي التي تسهر على إعادة إنتاجها عبر وسائل مختلفة، ثمّ هي التي تحارب التعدّد والاختلاف تحت اسم محاربة الخطأ الاعتقاديّ. إذن– وبهذا المعنى- عرف الإسلام المؤسّسة الدينيّة، ليس في الإطار السنّيّ فقط بل في مختلف الأطر المذهبيّة: في البداية كانت حركة «أصحاب الحديث» وعلاقتها الوظيفيّة بمؤسّسة الخلافة، ثمّ جاءت مؤسّسات «الزيتونة» و«الأزهر» و«القرويّين». وعند الشيعة انتظمت مؤسّسة «الحوزة»، وعند الإباضيّة استمرّت مؤسّسة «العزّابة» لمدّة طويلة. وقد قامت كلّ هذه الهيئات بأدوار أساسيّة في الحفاظ على ما عدّ ثوابت المذهب، وفي توجيه وعي المؤمنين.

واليوم ينبغي للمؤسّسات الدينيّة أن تتخلّى عن دورها التقليديّ في تثبيت رؤية رسميّة أحاديّة للدين تنفي ما عداها، لتتكفّل في المقابل بوظائف تستجيب لقيم التحديث السياسيّ والثقافيّ. وذلك بأن تعمل على نشر قيم الاعتراف بالآخر المختلف توافقًا مع مفهوم المواطنة، واحترامًا لمبدأ حريّة الضمير، وأن تعمل أيضًا على تطوير وعي دينيّ يحمي المؤمنين من نزعات التطرّف والتوظيف السياسيّ للدين.

● ثمة دعوات كثيرة اليوم تطالب بتحديث الإسلام من الداخل من أجل الإجابة عن بعض التحديات/ الأزمات التي يواجهها المسلمون كالعنف والصدام مع الحداثة والانعزال الشعوري الجمعي لبعض الفئات المجتمعية عن التطورات الهائلة التي يشهدها العالم في مجالات معرفية وعلمية مختلفة. سؤالي يأتي في قسمين الأول: إلى أي حد يمكن لنا اعتبار أن الإسلام يقاوم ضغوط الحداثة وأن العنف آلية دفاعية له؟ والثاني: هل التأويلات التجديدية للنصوص الدينية خارج الفهم الكلاسيكي قادرة على إخراج
الإسلام من أزمته؟

تقتضي إجابتي عن القسم الأوّل من سؤالك أن أُبْدل كلمة الإسلام بـكلمة «المسلمين». فالمشكل ليس متعلّقًا بالإسلام في حدّ ذاته، بل بالمسلمين وبكيفيّة تمثّلهم لدينهم وانخراطهم في التاريخ. الإسلام عندما انطلق كان له الفضل في تطوّر كبير تحقّق للعرب؛ لأنّه كان دافعًا أساسيًّا لتجاوز الموجود والانفتاح على الآتي. لذلك لست أرى أيّ تعارض بينه وبين الحداثة التي عرَّفها المختصّون بكونها «سنّة الجديد» (La Tradition du Nouveau)؛ الإشكال إذن لا يتعلّق بالإسلام بل بتمثّله وبالعلاقة التأويليّة التي تُقام معه، أي بالفواعل الاجتماعيين، فهم المسؤولون عن مدى النجاح في الانخراط الإيجابيّ في عصرهم، وفي استيعاب قيم الحداثة مثل التعدّديّة والاعتراف بالاختلاف واحترام الآخر والديمقراطيّة. إنّ الأزمة التي نعيشها اليوم، ليست متأتية من الدين، بل هي في جانب منها متأتّية من تمثّله تمثّلًا محدودًا ومنغلقًا: لا تزال تيّارات عديدة تقحمه في الصراعات السياسيّة، وبه يبرّر المتشدّدون رفض التجديد والإبداع، وباسمه يصادرون الحريّات، وتحت اسمه يرفضون التعدّد والاختلاف، وبتعلّة الدفاع عنه يدّعي المتطرّفون أنّ العنف الذي يمارسونه عنف شرعيّ.

هنا أصل إلى القسم الثاني من سؤالك والمتعلّق بدور التأويلات التجديدية للنصوص الدينية في إخراج الإسلام من أزمته. فكلّ التأويلات الكلاسيكيّة التي أنشِئت حول النصّ الدينيّ في الماضي قدّمت خدمات اقتضتها العصور التي أُنتِجت فيها، وكانت من هذا الوجه صالحة ومفيدة، لكن اليوم نحن إزاء «إبستيمية» جديدة وانتظام محلّيّ وكونيّ مختلف جوهريًّا عن ذاك الذي كان سائدًا في العالم القديم، وهذا يتطلّب تأويلات تخلّص وعي المؤمنين من سلطة تأويلات ماضية ناشزة عن حاضرهم وعن مقتضيات التحديث، والسبيل إلى إبداعها عبر المناهج الجديدة في القراءة والتأويل.

شرف المساهمة في تطوير مباحث الخطاب

● تطرح المناهج المستخدمة في قراءة المدونة الدينية والتراثية في الإسلام، مشكلة الطابع التقليدي الطاغي على إنتاج المعنى الديني، فتبقى منغلقة في مجالها مع إعادة تقديم المسلمات نفسها التي أسست لها التفسيرات الكلاسيكية/ التقليدية؛ وإذا نظرنا إلى المسيحية نجد أن علماء اللاهوت المجددين استخدموا مناهج علمية نقدية لتحديث رؤية الكنيسة تجاه الدين والعالم. لماذا يبدو أن الإسلام محكوم عليه بالنزعة المنهجية القديمة؟ وكيف تفسرين خشية رجال الدين المسلمين من تطبيق المناهج العلمية على النص القرآني؟

أعتقد أنّ رجال الدين المسلمين فوّتوا على أنفسهم شرف المساهمة جدّيًّا في تطوير المباحث الخاصّة بالخطاب وبالنصّ. إنّ للإسلام خصوصيّة ينفرد بها وهي معجزته ذات الطبيعة اللغويّة. وإذا ما قلنا معجزة لغويّة استحضرنا بالضرورة كلّ المقوّمات المتّصلة بالخطاب إنتاجًا وتفسيرًا وتأويلًا وتنظيرًا. لقد كان بإمكانهم وهم في إطار ثقافة نصّيّة، لا أن يفيدوا فقط من مناهج ازدهرت في ثقافات أخرى، بل أن يبدعوا فيها وأن يطوّروها عبر تحويل «الخاصّ» من مفاهيمهم وآليّاتهم التفسيريّة إلى «العالميّة». أقول هذا الكلام وأنا
أستحضر الدور المركزي الذي قام به رجال الدين المسيحيّون –
ومن بينهم فلاسفة- في تغيير التمثّل التقليدي للخطاب وللتفسير وللتأويل وهم يتعاملون مع نصّهم المقدّس. فالتأويليّة (Herméneutique) نشأت في أحضان التفسير
الديني، لتتطوّر لاحقًا على أيدي فلاسفة الخطاب الذين أضافوا منهجيّة علميّة لا غنًى عنها اليوم في التعامل مع الظاهرة الخطابيّة.

والسؤال المطروح كما قلتِ سيدتي الكريمة: لماذا يخشى رجال الدين المسلمون تطبيق المناهج العلمية على النص القرآني؟ الإجابة عنه لا تخرج عن محاولة الوقوف عند وجهٍ من أوجه أزمتنا الفكريّة: هؤلاء لا يخشون خطرًا على النصّ الديني كما يعلنون، بل هم يخشون على أدوارهم التقليديّة التي لا تجد لها مبرّرًا إلّا في ظلّ استمرار التصوّر التقليدي الذي يعدهم دون غيرهم أوصياء على فهم الدين فهمًا صحيحًا، وهذا ما تخفيه خطاباتهم ولا تصرّح به.

● ارتبط النص الديني بالواقع التاريخي وبالمجالين الصراعي/ السياسي والتداولي/ المعرفي، فثمة تأثير متبادل بين المقدس والتاريخ، أدى إلى إحداث ثورات في التاريخ الإسلامي وإلى ولادة الفرق والمذاهب التي تعد جزءًا من ثراء الإسلام. ما طبيعة العوامل التي أثّرت في الاختلاف الفِرقي المذهبي؟

كلّ ظاهرة اجتماعيّة- سياسيّة- ثقافيّة، هي ظاهرة أفرزها واقعها التاريخيّ في كلّ أبعاده، وهي من هذه الناحية نتيجة متوقّعة ومفهومة في ضوء خصوصيّات ذلك الواقع. وقد شهد المجتمع العربي خلال المرحلة الإسلاميّة الأولى تحوّلًا من النظام القبلي التقليديّ إلى نظام الدولة والسلطة المركزيّة. وهو الأمر الذي أفرز صراعات عديدة بين مختلف الأطراف الفاعلة اجتماعيًّا: كلّ طرف يدّعي أهليّته للسلطة. وطبعًا، كان مفهومًا أن تتعدّد أساليب الصراع وآليّاته، ويعنينا منها الآليّة الدينيّة: فظهرت المذاهب والفرق، وبرز حرصها على إنشاء مدوّنة مذهبيّة تشمل فهمًا محدّدًا للقرآن وأحاديث بعينها منسوبة إلى الرسول وتراثًا فقهيًّا خاصًّا وغير ذلك. والغاية منها إثبات المشروعيّة والدفاع عن الاختيارات. كانت هذه الكيفيّة في التفاعل بين الدينيّ والسياسيّ مبرّرة بتركيبة المجتمع التقليديّة وبمحدوديّة الوسائل المعتمدة في ممارسة السلطة. لكن اليوم تغيّر الأمر كثيرًا: ظهر مفهوم المسؤوليّة الفرديّة في إطار المواطنة، وأثبتت الوسائل الديمقراطيّة الحديثة في ممارسة السلطة نجاعتها، فلم تعد هناك حاجة إلى اللجوء إلى الأدبيّات المذهبيّة.

● يلحّ علينا اليوم سؤال التنوير على الرغم من حالة التشاؤمية المسيطرة على العالم العربي في العقود الأخيرة. هل المزاج العربي العام اليوم قابل لاستيعاب المبادئ التنويرية الكبرى كما صاغها إيمانويل كانط التي أضحت قاعدة عالمية للثورة على الماضي والتأسيس للمستقبل؟

الفكر العربي إن تخلّص من القيود التي تكبّله، ومن دائرة الممنوع التفكير فيه، سيستوعب مبادئ التنوير، وسيصبح قادرًا على الإضافة إليها وإثرائها. هو اليوم ككلّ فكر ليس مطالبًا بالقطع مع الماضي للتأسيس للمستقبل، بل هو مطالب بتشريح هذا الماضي حتى يفصل فيه بين الإنسانيّ الدائم والقابل للتطوير، والظرفيّ العابر الذي ينتصب حجر عثرة في طريق التقدّم. فمن المعلوم أنّه لا يمكن تأسيس الجديد على أرضيّة منفصلة. كنت دائمًا أقول: إنّ العلاقة بين الماضي والحاضر أو التراث والحداثة ليست علاقة تضادّ، بل هي علاقة تواصل وانقطاع في آن. والنقد والتفكيك وإعادة البناء، عمليّات ضروريّة تحدّد ما الذي يمكن أن يتواصل من الماضي فيكون رافدًا من روافد التجديد المطّرد، وما الذي يجب أن يُحفظ في المتاحف لأنّ زمانه ولّى وانتهى، وما أكثره! وكما قال أحد المفكّرين: «إنّ الكيفيّة الوحيدة للحفاظ على التراث هي قبول تعريضه للخطر»، خطر النقد والعرض على محكّ النجاعة والراهنيّة. هذا ما يمكّننا من اتّخاذ مسافة من هذا التراث، لنعيد بعد ذلك امتلاكه امتلاكًا نقديًّا واعيًا. وأعتقد أنّ المفكرين العرب خطوا خطوات مرضيّة في طريق التنوير، وطرحوا بعمق فلسفيّ واجتماعيّ ودينيّ عوائق تحرير العقل العربي. لكن، لا تزال الطريق أمامهم طويلة.

التسامح بين ثقافتين

● يستخدم كثيرون مصطلح «التسامح» للتعبير عن تقبل وجود «الآخر» المختلف دينيًّا أو إثنيًّا. يرى بعض أن هذا المصطلح ينمو على أرضية استعلائية أو على الأنوية العرقية أو الدينية، ومن الأفضل التأسيس لمرادفات لا تستبطن إسقاطات مثل «المجتمع المتعدد» أو «التعددية الثقافية والدينية». ما رأيك في ذلك؟

أعتقد أنّ الدعوة إلى مراجعة الاستعمال الشائع لمصطلح التسامح في الثقافة العربيّة، هي دعوة تسير على خطى تلك التي ظهرت في الثقافة الغربيّة المعاصرة، من دون أن ينتبه أصحابها إلى الخصوصيّات المميّزة لتاريخ كلّ مصطلح في سياقه الثقافيّ. ففي الثقافة الغربيّة ينطلق النقد الموجّه إلى مصطلح تسامح (Tolérance) من الرصيد الدلالي المعجمي السلبيّ الذي اقترن بالكلمة اللاتينيّة (Tolerantia) والذي لم يعد يتماشى اليوم مع القيم الكونيّة. ففي البداية لم تكن دلالات هذا المصطلح تعدو أحدَ معنيَيْن: الأوّل هو السماح بأمر على رغم كونه خطأً ومخالفًا للقواعد، والثاني هو القبول على مضض بالعقيدة والرأي المخالفيْن. ثمّ وبحكم تطوّر مفاهيم التعدّديّة وحقوق الإنسان والمواطنة وغيرها. في العصر الحديث، اكتسب دلالات جديدة في إطار «عقلنة» الاختلاف، والسعي إلى توفير شروط التعايش السلميّ القائم على «الاعتراف» و«الاحترام» و«حرّيّة الاعتقاد». وفي إطار سعي الفكر الأوربي اليوم إلى تدقيق المفهوم وتخليصه ممّا ترسّب فيه من دلالات «الاستعلاء» و«الأنوية»، ظهرت مواقف تدعو إلى تعويض مصطلح (Tolérance) بمصطلحات أخرى لا تحمل هذا الإرث المعجمي السلبيّ، من قبيل «الاعتراف» (Reconnaissance) و«الاحترام» (Respect).

والجدير بالملاحظة أنّه عندما انتقل المفهوم الغربيّ الحديث للتسامح إلى الثقافة العربيّة في العصر الحديث، انتقل إليها بدلالاته الجديدة لا بتلك التي تعود إلى المرحلة الكلاسيكيّة اللاتينيّة. واستُعمِلت كلمة «التسامح» العربيّة للدلالة على هذا المفهوم. وهي كلمة لا تعاني إرثًا معجميًّا سلبيًّا، بل على العكس من ذلك، جاء إرثها المعجميّ متناسقًا تمامًا مع الدلالات الحديثة، وهو «السخاء» و«التساهل» و«عدم التضييق والتشديد» و«الموافقة» و«الانسجام»، وفق ما جاء في المعاجم العربيّة؛ لذلك فإنّ هذا المصطلح العربي ليس في حاجة إلى الإلغاء لتعويضه بآخر، بل هو في حاجة إلى التحيين المستمرّ لإثراء دلالاته وجعله أكثر فاعليّة في وعي مستعملي هذه اللغة.

● نلاحظ أن العديد من الباحثين والكتّاب في العالم العربي يهتمون بتاريخ المهمشين في حضارتنا، ومن يتابع بعض الإصدارات في العقود الأخيرة يتبين له ذلك، خصوصًا في موضوعات النساء والأقليات الدينية والمذهبية وأبناء الأطراف. كيف تفسرين ذلك؟ هل ساعدت التطورات التكنولوجية تحديدًا في الفضاء الرقمي على تفعيل الأسئلة المثارة حول المهمشين؟

مفهوم المهمّش هو سبيلٌ إلى مراجعة السائد الذي فرضته ثقافة السلطة والذي لا يقدّم كلّ الحقيقة
بل ما يناسب منها التصوّر الرسميّ. وأعتقد أنّ القيم الكونيّة الحديثة القائمة على اعتبار الحقوق المتساوية
بين البشر بصرف النظر عن جنسيّاتهم وأديانهم وأعراقهم وأيديولوجيّاتهم وغيرها.. هي التي نبّهت إلى ضرورة إعادة الاعتبار لمن حرموا من هذه الحقوق في الماضي كما في الحاضر.. والتطورات التكنولوجية – خصوصًا في الفضاء
الرقمي- لها فضل في إتاحة فرص التعبير للجميع متجاوزة بذلك الاحتكار التقليدي لوسائل التعبير من جانب أصحاب النفوذ المادّي والمعنوي.

العقلية الذكورية

● سأنتقل إلى موضوع آخر شغل اهتمامك البحثي والأكاديمي، أقصد حضور المرأة في الحضارة العربية
والإسلامية. ففي كتابك «زعامة المرأة في الإسلام المبكر: بين الخطاب العالم والخطاب الشعبي» درستِ بعض النماذج النسائية المبكرة من بينهن: سجاح بنت الحارث التميمية، وعائشة بنت أبي بكر، والكاهنة دهيا، وحاولتِ إخراجهن من المغالطات والتشويهات التي صيغت حولهن. لماذا حرص الخطاب التاريخي الرسمي على مصادرة الحضور النسائي، تهميشًا وإقصاءً؟

المسألة سلطويّة بحتة. فالعقليّة الذكوريّة الحريصة على جعل الزعامة شأنًا خاصًّا بالرجل دون المرأة، هي التي تحكّمت من الداخل في الخطاب التاريخيّ – والخطاب الفقهيّ على حدّ السواء- وحدّدت معايير إنتاج المعنى. فجاء تصوير التجارب السياسيّة والعسكريّة التي قادتها نساءٌ مشهورات تصويرًا مشوّهًا ومنقوصًا، الهدف منه إقناع الجميع بأنّ المرأة إذا ما شاركت في الشأن العامّ وتسلّمت القيادة لن تفلح ولن يفلح مَن قادتهم. ولا تزال معانٍ كهذه -مع الأسف- ذات أثر مهمّ في الواقع العربيّ مشرقًا ومغربًا. وقد آن الأوان لتفكيكها والكشف عن آليّات إعادة تشكيل التاريخ حتّى يخدم أهدافًا فئويّة وأخرى رسميّة.

● ثمة تطور ملحوظ في الدراسات النسوية العربية تحديدًا في المغرب العربي، إذ نلاحظ بروز خطاب نسوي نقدي واضح تجاه الدين والبنى الأبوية. ما رأيك في هذا الحراك المعرفي النسوي المغاربي؟ هل اتساع فضاءات الظهور ساعد على بروز الكاتبات المعنيات بهذا الحقل؟

أعتقد أنّ تحديث التعليم في المغرب العربي – ويعنيني أنموذج تونس- آتى أُكلَه من خلال ظهور مدارس فكريّة نقديّة أفادت من المناهج الحديثة في اكتساب المعرفة وإنتاجها، خصوصًا في مجال الإنسانيات. وهذه المناهج يعدها بعض غربية فيأنف من اعتمادها ويتشبّث بالتقليدي منها، وهي في الحقيقة مكتسبات علميّة إنسانيّة، والعلم لا جنسيّة له. ولو وقفنا عند المناهج المتعلقة بالخطاب إنتاجًا وتفسيرًا وتأويلًا، سنتبيّن بُعدَها الشمولي؛ لأن الخطاب ظاهرة تواصلية بشرية، والآليات المتحكمة فيه هي الآليّات ذاتها وجامعةٌ بين كلّ اللغات. وحريّ بنا اليوم ألّا نقف عند حدّ الاستهلاك ومتابعة آخر المستجدّات في هذا المجال وفي غيره، وأن نعي في المقابل واجب المساهمة في المعرفة الإنسانيّة التي تعدّ اليوم معيارًا للتفاضل بين الأمم.

● صدر كتاب جماعي العام الماضي بالفرنسية تحت عنوان (L’Âge de la régression) «عصر النكوص» شارك فيه فلاسفة وعلماء اجتماع واقتصاد، ومن بينهم عالم  الاجتماع زيغمونت بومان حيث حذر من موجات الشعبوية
واستحضار مقولة صدام الحضارات. كيف تنظرين كمفكرة إلى ما يجري في أوربا اليوم إثر تنامي اليمين المتطرف والنزعات الإقصائية المعادية للغريب التي تتنافى مع قيم الحداثة الغربية؟

مقولة صدام الحضارات هي إفراز لنزعة الهيمنة المعولمة، وهي تقسيم للمجتمعات على أساس ما يفرّق بينها ويحملها على معاداة بعضها الآخر؛ لأنّ ما ترسمه هذه المقولة من تفاضل في الهويّات يقيم حواجز يتعذّر  إلغاؤها. وقد قامت العولمة على تفاوت كبير بين أطراف قوية مسيطرة تحتكر السلطة والثروة من ناحية، وأخرى ضعيفة تابعة اعتُبِرت عبئًا ومصدرًا للمشكلات من ناحية ثانية. هذا الواقع غير المتكافئ أنتج وضعيتين كل منهما جزء من الأزمة الراهنة: فالطرف القوي ضخَّم فكرةَ الخطر الذي يمثله الغريب، فنما في صفوفه اليمين المتطرف ذو النزعات الإقصائية؛ والطرف الضعيف التابع، راح يعوّض قصوره عن تحقيق السيادة الاقتصادية بالتمسك بالسيادة الثقافية، فنمت في صفوفه حركات التطرف الديني المنادية بالعودة
إلى ثقافة ماضية رأتها رمزًا للاستقلال وللهويّة. لذلك فإن عدم التوازن الذي يحكم العالم سيظل من أهمّ الأسباب المنتجة لردود أفعال متطرّفة في هذا الاتّجاه أو ذاك.