طلال معلّا: الإنسان في حالة استعراض دائم تغيب فيه ملامحه وحاجته للتميز ناقد فني يقول: إن الجميل اختفى ليحضر المدهش

طلال معلّا: الإنسان في حالة استعراض دائم تغيب فيه ملامحه وحاجته للتميز

ناقد فني يقول: إن الجميل اختفى ليحضر المدهش

تزخر الكتابة النظرية الفنية اليوم بجملة من الباحثين العرب الذين راكموا عددًا من البحوث والكتب العلمية تجعلهم اليوم في طليعة الباحثين في وطننا العربي، كفريد الزاهي وشربل داغر وموليم العروسي وعفيف البهنسي وشاكر لعيبي وغيرهم من الباحثين الذين نظَّروا وقعَّدوا للفن العربي بشتى أنواعه. ويعدُّ الفنان التشكيلي والباحث الجمالي السوري طلال معلا واحدًا من العلامات المتميزة والبارزة في المشهد الثقافي الفني العربي، فقد انخرط بشكل مكثف وعلمي أكاديمي متميز داخل حقل الدراسات الفنية العربية المعاصرة ممارسةً ونقدًا وتنظيرًا، أقام خلال مسيرته الإبداعية العديد من المعارض الفنية في كل من بيروت وسوريا ولبنان والإمارات وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا، فضلا عن إصداراته الكثيرة والمتنوعة الموزعة بين كتابة الشعر والتنظير في مجال الفن، نذكر منها: بؤس المعرفة في نقد الفنون البصرية العربية، وإحياء الذاكرة التشكيلية السورية، والمؤتلف والمختلف: الانفتاح على المرئي في تجربة الإمارات، وأوهام الصورة: التشكيل العربي.. الثقافة السائبة، وعزف منفرد على الطبل، وموت الماء… إلى غيرها من الإصدارات الفردية والجماعية التي راكمها عبر مسيرة فنية غنية قلَّ نظيرها في ثقافتنا العربية. في هذا الحوار لـ«الفيصل» يتحدث طلال معلا حول عدد من القضايا الجمالية والنقدية.

● طلال معلا، من النقد التشكيلي إلى كتابة الشعر. كيف تستطيع أن تتعايش بين هذه الحقول المعرفية، ثم ماذا يعني لك فعل الكتابة بصفة عامة؟
■ الكتابة عشق كيفما كانت، ويختلف الأمر حين يكون الحديث عن الكاتب، شاعرًا كان أو ناقدًا، حيث يتم التعامل مع الموهبة والمهارات للوصول إلى التميز، فالشاعر الجيد لا يحتاج لإمكانات ومواهب الشعراء، دون أن يغيب عن البال أن كليهما (الشاعر والناقد) يحتاج أن يكون قارئًا ممتازًا وعلى دراية بأن تعلم الكتابة يحتاج لتعل م القراءة وتحليلها والحكم على آليات اشتغالها باعتبارها التعبيري والفكري.. أنا أنظر إلى الموضوع من حيث بقاؤه على قيد الاحتياج والاستمرار في التفكير، فالشعر يعيش ما دامت الموسيقا تسعى لتعيين الكلمات وبنائها في صورتها الفوقية التي تنتج للوعي أعمق المعاني وأحدث الصور المتخيلة وأبلغ عبقريات اللغة.. يبدو أن هيغل كان محقًّا في اعتباره أن الشعر هو الأعلى بين الفنون وأن الشعر هو أزمة الفن بقدر ما هو انتصاره.
يبدو أن العالم –اليوم- في غفلة عن القيمة الطقوسية للشعر بالمبالغة في تبسيط المعاني الكبرى لشمولية الفعاليات الجمالية، وبخاصة حين ينساقون لمعرفة ما يعرفونه مسبقًا، حيث تنتفي المتعة وعدم القدرة على التعامل مع الأحاسيس البشرية.. لقد فقدوا متعة أن يخدعهم الشعراء بالتعبير عن قلقهم وكل ما يدغدغ خيالاتهم من خلال أصواتهم الداخلية التي لا تكشف إلا عما يخبئون وبخاصة تلك الأشياء التي لا مرجع لها والتي كلما تجلت في القصائد ازدادت قوة في خلخلة اليقين وتقويض النظام، الذي يهدد الوعي بكيان الشعر فما يدفعني إليه كل ما هو ذهني ولا يمكن وصفه أو التعبير عنه إلا بالاستمرارية في الكتابة والإيغال أكثر في الطبيعة اللغوية، التي تمنح الفرصة للكتابة عما هو غير مألوف في إطالة عمليات تصور العالم، الذي سيبقى في حاجة لإطالة عمر الكتابة بصورة عامة، والشعر بصورة خاصة، لكونه الأكثر إيجازًا في نقل التجربة المعرفية وكل ما تتضمنه من معانٍ أخلاقية وإنسانية وجمالية. الكتابة هي اقتحام مساحات الصمت في داخلي واحتلال نسيجها المعقد بكسر مختلف آليات التصور المسبقة.

● من موقعك كباحث وناقد فني مرموق، كيف تنظر إلى مسألة النقد الفني وأهميته في مسار الحركة التشكيلية داخل المنظومة الفنية العربية؟
■ قبل أن أُشرف على تنظيم جائزة الشارقة للنقد الفني التشكيلي تنبّهت إلى ضرورة مأسسة النقد البصري في السنوات الأخيرة من العشرية الأولى لهذا القرن، وحاولت في دورات هذه الجائزة استقطاب أهم الأسماء الممارسة لهذا النوع من النتاج الإبداعي، والحقيقة أنه يمكن أن نقسّم هؤلاء النقّاد إلى نوعين: نوع مهمته أن يقدّم معلومات عن المعارض والفنانين، وأنا أراهم كُتّابًا وغالبًا من الموهوبين في مجالات الفنون التشكيلية وليسوا نقّادًا، ونوع آخر يذهب إلى ما هو أبعد من الضجيج الذي يُثار حول معرض أو غرابة فنان ليحلل الظاهرة، ويُعطي قراءته النقدية والرؤيوية للتجربة في إطار تحولاتها من جهة، وتحولات الفن من جهة أخرى، وهو الدور الأساسي للناقد الذي يُسهم في صياغة الرأي الفني وبناء التفكير البصري. توصف الكثير من الآراء النقدية بقصور نظرتها في هذا المجال، وخداع النقّاد لأنفسهم قبل الآخرين، وذلك يتمثّل فيما نراه من قراءات تدويرية تعيد صياغة تقييمات بعضها البعض، بعيدًا من الاستنارة بالفكر الإنساني المعاصر الذي يشتمل على بصيرة لا تقل إبداعًا عما ينتجه الفنانون.. هذا لا يعني أنه لا توجد أصوات نقدية عربية ناضجة، سواء على المستوى الأكاديمي أو ما هو خارج حظيرة الأكاديمية، ولا أسعى للقول: إن النقد الفني في المنطقة العربية قضية ميؤوس منها، لكن يمكن أن أقول: إن العملية النقدية مشروع متكامل، وضرورة أكيدة تحتاج لمؤسساتها الحقيقية، فالنشر الفني في أدنى حالاته، وإحصائيات النشر في المنطقة العربية تؤكد ذلك. كذلك البرامج التوعوية والإعلامية والمؤسسات النقدية والمساحات المتاحة للنقد في الصحافة بكافّة أشكالها… إلى ما هنالك من وسائل المعرفة ونقل الخبرة التي تمنح المجتمعات الطاقة الجمالية اللازمة للحديث عن الفن خارج تصنيفات السوق، التي لا تُصنف الفنانين وحسب، بل باتت توصف وتصنّف النقّاد أيضًا، الذين يوظفون رؤاهم لخدمة هذه السوق. ما نسعى لتأكيده أن الناقد الفني جزء لا يتجزأ من العملية الفنية، فالسياق التاريخي للتجارب يمتلكها الناقد الذي يترجم التجربة وفق سياق الفن المعاصر وتحوّل نظرياته… بهذا الشكل يصمم الناقد رؤيته الإبداعية التي لا يحدها ثبات والتي تترسخ لدى جمهور الفن عن تجارب الفنانين وحركاتهم ومذاهبهم.. في معارض الغرب تتعلّق عيون الجمهور بالنقّاد، عندنا غالبًا ما أرقب العيون المحرجة في المعارض وهي تبحث عن فرصة للتعامل مع العمل الفني.. رغم أن الكثير من المتعاملين مع محامل الفن ومحترفاته يدّعون أن النقد الفني لا يُقدّم ولا يُؤخر في مسار الحركات الفنية، وأن انتماءه للأدب يثير سخرية الفنانين واستهجانهم المستمر بأنه لا يوجد نقد في المنطقة العربية… ولكي لا يبدو الأمر دفاعًا عن النقّاد والنقد، فالحقيقة أن النقّاد عندنا لم يرقوا لدرجة أن يكونوا مروجين للأعمال الفنية كحال نظرائهم في الغرب! مع ذلك لا بُد من الإقرار بأن النقد الفني لم يزل متعثرًا لعدم اكتمال شروط وجوده، وغياب المنصات الحقيقية التي يمكن أن تفصح ليس عن دوره فقط، إنما عن الأفكار النقدية حول طبيعة الفن في المنطقة العربية وتاريخه وعلاقات بعضه ببعض وبالعالم من حوله وبالتيارات الفكرية التي تحاول الإجابة عن أزمات العصر، على أنه لا نستبعد دخول النقد ساحات الصراع الحقيقية ومنها القضية المهيمنة على الإبداع، أقصد السوق، وأبعاد الاستثمار في الفن، وقراءة الفوضى التي تقتحم عالم الفن.

الصورة فاقت حقيقتها الجمالية

● ماذا عن موقع الصورة اليوم بمختلف تعبيراتها داخل الممارسة الفنية العربية، سواء تعلق الأمر بالتشكيل أو السينما؟
■ حين نتكلم عن تعبيرات الصورة إنما نتكلم عن مختلف الأبعاد لاستخدام هذه التعبيرات، بما فيها البعد الأخلاقي الذي نتشارك قيمه ودلالاته في عالم الصور الذي بات أساس العمليات البصرية وتعبيراتها وشمول دلالاتها، سواء كانت الصور فنية أو علمية، رقمية أو موجية، فوق صوتية أو فوتوغرافية بأنواعها المختلفة وصولًا إلى المنتجات السينمائية وتعقيدات إنتاجها. فالعالم اليوم الذي يتحول من أشياء إلى صور لا يزال على علاقة بلاغية بالإنسان المستخدم والمستهلك والمنتج لهذا الانفجار الصوري، الذي فاق إمكانية حفظه وتداوله، والذي يشكل نقطة محورية في اهتمام المؤسسات البحثية العالمية، لكون الصورة فاقت حقيقتها الجمالية إلى تخوم وأبعاد مفاهيمية وإلى معايير ملكيتها وحقوق نشرها وظروف إعادة إنتاجها. بهذا يتداخل موقع الصورة مع مختلف أشكال الممارسة الفنية في التشكيل وسواه، وبخاصة أن المنتج البصري التقليدي بشموله ليس إلا الصور في إطار خصوصيات خلقها التي باتت التقنيات الجديدة تعيد صياغتها بحيث تؤثر في حقيقتها وكل ما ينتج عن ذلك ويؤثر في الوعي بتجارب المصورين، إنه الأمر ذاته المتكرر في السينما، حيث يبدو نوع التعبير في الفن معتمدًا على الموقف الذاتي تجاه العالم، الذي باتت التقنية تتلاعب فيه بما يفوق إمكانيات وقدرات العاملين في إنتاج الأفلام. كتبت منذ زمن في مقال عن الصورة الشخصية واستحالة التحديد أن الصورة التي كانت تعبر عن وجه هو مادة التعريف، باتت مادة استهلاك بعد دخولها في النسخ والتكرار والإنتاج المتسلسل (مارلين مونرو وغيرها أضحت موضوعًا للصورة الشخصية المنسوخة والمطبوعة بالشاشة الحريرية لدى وورهول، ومن بعد ومن قبل فناني البوب آرت، واقتنت المتاحف في أنحاء العالم هذه النسخ باعتبارها أصولًا فنية، وما أنجزه وورهول، وريتشارد هاميلتون، وليتشنشتاين، وجاسبار جونز وري جونسون، كان مادة متحفية في معرض 1967م في المتحف البريطاني.
وقد عُبِّر عن مثل هذه التحولات في أدبيات التحليل الفني باعتبار أن الوجه قد ترك الأرض إلى الفضاء، بما استجد عليه على المستوى الصناعي والجراحي والتجميلي. كما أن العمل الفني البصري الذي يحتاج إلى وسائط لم يعتدها الفن لا يمكن أن يحاكم على المستوى النقدي بمثل ما كان النقد في تاريخ الفن. ويمكن القول: إن لاهوتًا جديدًا بدأت تصوغه نظريات ما بعد الحداثة للتعامل مع الشخصي في العمل الفني، وبخاصة بعد الانتقال إلى المنتج الأثيري. حيث أضحى المشاهَد هو النظام الرقمي للصورة، في حين المرئي هو التمثيل الوهمي للنموذج، واختلفت بذلك معايير النور كمصدر لرؤية الصورة والتعامل معها (روحاني- شمسي- كهربائي) وبعد أن كانت الصورة مادية ترسم على الخشب أو القماش، باتت صورة أثيرية غير مادية، فاختفى الجميل ليحضر المدهش، وذابت الأكاديمية لتنشأ الشبكة التي تحتاج إلى إعادة حضور المهنة والتخصص، لإنتاج ما لا يمكن تخيله من الصور التي تجعل الإنسان في حالة استعراض دائم تغيب فيه ملامحه وحاجته للتميز.

 

الفكري متداخلًا مع المادي

انطلاقًا من المنظومة الفكرية العربية الإسلامية، إلى أي حد يمكننا الحديث عن إمكانية تمنحها إيَّانا البنيةُ الفكريةُ التي نشأ فيها الإسلام أو التي آمنت وتشبعت به كحضارة في بناء صرح فلسفي عربي إسلامي لفلسفة الجمال؟

التصوير كـ(تمظهر) ملموس لحقيقة العــقــائد الــروحيــة، مرتبط بممارسات ملموسة في عمق الحِرَف الممارسة من قبل المجتمعات، التي تكشف عن إمكانيات الخبرة الروحية لدى المجتمع الإنساني.. هذا يشير إلى ارتباط المقدس بمكوناته العليا بطرق العيش الأرضي، ويجعل الفكري متداخلًا مع المادي. وإذا كان المقدس -في أي شكل من أشكاله- محورًا للشعور بالجمال والتسامي، فإن التعبير عنه لا بد أن يكون على المستوى الحضاري إفصاحًا عما يحتويه هذا المقدس من القيم والانتماء لوجود يُصاغ على المستوى الجمالي، بالكشف عن صور وإبداعات تحتاج بمجملها لمرجعيات حضارية، تتمثل خبرات وتجارب عريقة متأصلة في مواقع محددة دون غيرها. فالإسلام كدين بانتقاله من جزيرة العرب إلى بلاد الشام وباقي المواقع كان انتقالًا لأفكار تمظهرت من جديد في بنية حضارات سادت المناطق التي دخلها، وهي فضاءات حققت على مدى الحقب التاريخية تراثات إبداعية وجمالية، سواء تحدثنا عن بلاد الشام أو مصر أو العراق أو سواها من المناطق ذات التراث العمراني والاجتماعي والفني، كحواضر وحواضن حققت انفتاحًا على الفنون الإنسانية، بالتماس مع تفاصيلها، استطاع عبرها الإبداع ملامسة معاني الإلهام، وبخاصة في حِقَب الاستقرار التي تحققت في هذه المناطق أيام الأمويين والعباسيين. كما يمكن الإشارة إلى امتداد فنون التصوير الإسلامي كمكون جمالي في بلاد الشام ومصر وبلاد فارس والعراق، حيث تركت (مدرسة بغداد) في التصوير الإسلامي أبلغ الأثر في توجهات فنون التصوير. هذا الكلام عن ارتباط بالتاريخ، ويفسر بعضًا مما اجترحه الفلاسفة العرب والمسلمون حول الحسن وأحواله، في وقت كانت الأيقونة المسيحية تأخذ مداها إثر حروبها الطويلة، ليتحول التعبير عن المقدس إلى محسوسات تصويرية، تردد صداها فيما ذهب إليه ابن عربي وتجلياته، أو ما تحقق من إنجازات المنمنمات الإسلامية والمسيحية في أعمال (مدرسة بغداد)، وما تحقق من عمومية الترميز إلى الإنسان بصورته المطلقة، وهو ما كرسه أبو حيان التوحيدي فيما ذهب إليه من أن «صور الفن لا شخصية لها، وأن الصور الفنية لا علاقة لها مع الصور الطبيعية، كونها لا تفارق هذه الصور مفارقة تامة أو محددة، لكنها صورة مفارقة على أية حال».

حين نتحدث عن بناء فلسفي للحسن والجمال إنما يقود الحديث إلى الشكل، وإلا كان الحديث إغراقًا في ماورائيات التجريد النظري، فالجمال المتجسد في الخيال مبني على تصور الشكل. وكذلك ما يُعَبَّر عنه بالكلام، وهذا يقود إلى معضلة التعبير بالجسد، والتعبير أيضًا عن الجسد الإنساني، المتمظهر هو الآخر في الروايات التصويرية للمنمنمات الإسلامية أو المسيحية، وكل ما تجسد من روايات المقدس في حواس الناس عبر التصوير، كأحد أهم المجالات التعبيرية عن الجسد في تجلياته التي تفوق حدوده المادية ومجاله الوجودي المرئي، وكل ما يتحقق في مستويات (اللامرئي) ومؤشراته الثقافية التمثيلية الدنيوية. التي يمكن الوصول إليها عبر ما تحقق لبنية المنمنمات بصورة عامة، وبخاصة الجوانب التقنية ذات العلاقة بتمثلات الجسد، وتقنيات إبرازه كموضوع على قدر كبير من الجمالية، ومن ثم الربط بينه وبين الطبيعة من جهة، والزخارف والكتابات من جهة أخرى، وكذلك ما يجمعه والأبنية والفضاءات المعمارية المتميزة، وكذلك برصانة وغنى الألوان، ودقة الربط بين الكتل وتوزعها.. إلى جانب عوالم المسوخات والحيوانات، كالجياد والإبل ومختلف الموجودات التي جرى تجاهل بعدها التجسيمي الثالث.

بعد انتشار الإسلام منذ القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر، بزغ في الآن نفسه الفن التصويري العربي، داخل مزيج وتشابك وزخم هائل من الثقافات التي تشكلت في كنف الحضارة العربية. ويكفي أن نعود ونقرأ في بعض المصادر القديمة، لنرى ذلك التلاقي الكبير بين الثقافات الذي أنجب لنا فنًّا حرًّا من كل المواضعات الدينية. كيف إذن نستطيع اليوم أن نفكر في التصوير العربي لذاته أي كفن، ثم في علاقته بالمقدس (الدين)؟

يمكن أن أشير هنا إلى صعود الأفكار الصوفية إثر الحقبة المغولية التي دامت مدة في المنطقة، فقد أضحى خيال الصوفي مرتبطًا بضرورات الرؤية الإلهية عبر التصعيد السمعي لعبور الرحلة التي تقوده إلى مشاهدة رمزية وخيالية لله، وقد انعكس ذلك في نصوصهم وآدابهم وخطابهم، المشاهدة القائمة بين الأرض والسماء، والوصول إلى أبدية الصلة بين العين الدنيوية والعين الأخروية العليا، العين التي رأت في الطبيعة بديلًا للجماليات الماورائية والتي تجلت في ترحال خيالي بين الأرض والسماء على صهوة البراق الذي ستتكرر صورته في الرسوم حتى يومنا هذا.

إذن يمكن الحديث عن فنون دينية مثلت محورًا مهمًّا في الفهم التصويري لدى مختلف الشعوب بما في ذلك المنطقة العربية، وأشير إلى النصوص التي كتبت باللغة العربية والتي كانت تعد بمنزلة النصوص المقدسة لكونها لغة القرآن.. وبكل الأحوال فإن نفي الصورة الذي تحدثت عنه والذي لجأت إليه الجماعات الأصولية في صراعها مع علمانية الطروحات الأخرى كان مؤداه أن تلك الأصوليات تبدو كأنها تقدم الدين الإسلامي من دون ثقافة أو تاريخ. ولهذا فإن التحولات التي طرأت على العقلية الجمالية حققت ما يتجاوز الاستفزازات التي تطول حرية التعبير في العالم العربي، ويمكن ملاحظة تاريخ الفنون –على الأقل في القرن المنصرم– وأهمية ما راكمته الحركات التشكيلية العربية من منجزات بصرية في مختلف مجالات الفنون بما في ذلك ما ندعوه فنون الحداثة وما بعدها. وإذا كان النقد لم يحسن تحليل علاقة التقدم البصري بالمجتمعات المتخلفة فذلك ليس عيب الفنانين وحدهم، فالتحالفات التي كانت وما زالت تقوم بين النظم التي تطبق بجمود الشريعة الإسلامية والحكومات تؤدي لا شك إلى تأخر العديد من المجالات الموازية للإبداع الفني كالتحرر الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والموقف من المرأة… الأمر الذي يجعل حركة التعبير الحر في مجالات الفن بعيدة من التطور والازدهار المشتهى قياسًا بالشعوب الأخرى التي تتصدر قاعات العروض في المنتديات والبيناليات الدولية.

القضية مرهونة إذن بالقوة التي يتمتع بها حاملها الاجتماعي على مستوى الوعي بالتاريخ وبالممارسات المعرفية الجمالية؛ إذ يشكل الغياب الكبير للمعلومات لدى الفنانين والنقاد والأكاديميات المعنية خللًا في كل ما نراه من حال الإبداع الفني، ولعل تراصف الأفكار بين فنوننا وفنون الآخرين –وبخاصة الغرب– يفسر معنى ما يشار إليه من إعادة إنتاج الاستشراق في مناطقنا إثر التلاقح الذي تم مع أفكارهم وممارساتهم، والذي بِتنا ننتجه ليكون خطابًا توقعيًّا لا واقعيًّا، يعكس الحياة والأحداث والمفاهيم على قياساتهم، ولعل هذا الفارق بين حقيقة الذات وما تنتجه من ذهنية خاصة تكون محورية في مناقشة المنتج البصري العربي.