الحطام العربي، رهان خاسر؟!

الحطام العربي، رهان خاسر؟!

طيب تيزيني

كان والدي القاضي المأسوف عليه، قد مات قبل خمسة عقود مرتين؛ مرة حين وافته المنية بكيفية طبيعية، ومرة ثانية حين اكتشف، وهو في عمر متقدم، أن «أيامًا سوداء» ستواجهنا نحن أبناءَه وأحفادَه، «يبحث فيها الجائع عن خبز ليأكله، فيجده قد تحول إلى «خيال» قد غاب بعيدًا من الأنظار، فيرجع متأسفًا منزعجًا، بعد أن أخذ الخيال الخبز معه. وتغدو المصيبة وجودية مركبة، نكون نحن المعاصرين ورثتها وضحيتها معًا: ثنائية بين غرب متغطرس يعمل على فرض نفسه عبر الحضارة وحروب الردع والتأديب! وشرق ذهب مع الريح مغلفًا ويهيأ للنزع الأخير؟!

على ذلك، تظل النار مضرمة عاتية، وتأخذ المسألة إياها صيغًا ودلالاتٍ متعددةً ومتعاظمةً، إلى أن يكون السؤال التالي قد نضج وأكسب مزيدًا من المرارة والأسف، وربما كذلك مع الشك والتشكيك في كل شيء يتصل به وبنا. ويزداد الاضطراب والتشكيك في القوى الذاتية، مع تزويد لـ«قوى الظلام» في تمددها واتساعها، ومع تقديم إعلام يشكك في القوى الحية، يدًا بيد مع توسيع دائرة البؤس والفقر والفساد، بهدف التشكيك في وجود قوى وطنية ومنظومات فكرية وأدبية وسياسية غير مخترقة من أجهزة غربية ما اعتبرناها ذات دور خطير، نعني أجهزة «الدولة الأمنية».

فهذه ضبطت وظائفها في ضوء عملية تفكيك الطبقة الوسطى والتيارات السياسية والفكرية القائمة، وجعل الجميع من مواطني الوطن العربي أو الأقطار العربية، في عدد من عليهم أن يخضعوا لسيطرة آلية تلك الدولة الأمنية، بحيث يوضع الجميع تحت مراقبتها وإلى ما يفضي ذلك من تفكيك وإفساد للجميع يحدث ذلك بهدف وضعهم تحت الرقابة الأمنية الحاسمة (إلى أن يشاء الشيطان، أي شيطان تلك الدولة، ودولة الفساد والإفساد، بحيث يصبح الجميع مُفسِدين ومُفسَدين «تحت الطلب»).

وقد جاءت الأهداف التي اندلعت في العالم العربي، خصوصًا انطلاقًا من عام 2011م، الذي انطلقت فيه تيارات عاصفة في بعض البلدان العربية، منها سوريا واليمن والعراق وليبيا، إضافة إلى ذلك مصر والجزائر وتونس إلخ، والباب مفتوح يرحب بحرارة بالمفسدين والفاسدين والعجّز واختصاصي تفكيك العالم العربي، بتفاهم أو بدونه من أهل الحل والربط خارجًا؛ ذلك أنه مستباح لرموز من الداخل، وكذلك من الخارج القريب والبعيد، خصوصًا في مواجهة أصحاب القرار وصناع (الأوضاع الأبدية والطامحين إليها) بإشارة من واحد أو آخر من القادة «الخالدين»!

ها هنا، علينا أن نضبط مصدر -أو مصادر- المواجهات والتحديات القائمة أو المحتملة في سياق مفتوح يسبق الزمن، خصوصًا زمن العاجزين، أو المتعاجزين داخلًا وخارجًا. وهذا، بدوره، يحتم علينا -أعني المفكرين والسياسيين العرب وغيرهم- أن نكتشف ونحدد أمرين اثنين، لا سبيل إلى تجاوزهما؛ الأول منهما يتحدد في الخصوصية الفعلية لكل من المصدرين، أي الأمرين، اللذين تشكَّلا تاريخيًّا، وذلك في ضبط النظام أو النظم الاقتصادية والاجتماعية وكذلك السياسية والثقافية. أما الأمر الآخر فيتحدد في ضبط السؤال التالي تاريخيًّا ومنهجيًّا: إلى أي مدى يحقّ للباحث، حقًّا وفي ضوء الأمر الأول، أن يعقد مقارنة بين كلا المصدرين المذكورين؟ فهذا السؤال يثير شكوكًا في مثل ذاك النظر المنهجي من موقع أن يفرط بالخصوصيتين الملازمتين لذينك الآخرين (أي المصدرين)، وذلك بالضبط لصالح متوازيات من المقارنات بينهما.

ولكن ربما أن تقصِّيًا تاريخيًّا وبنيويًّا ومعرفيًّا للمسألة، قد يفصح عن ضرورة الأخذ بالاعتبار لاثنين من أوجهها، يسمحان فيما أخذ بهما بالمضي إلى الأمام وباتجاه الإقرار لوجهين من أوجهها. أما الوجه الأول فيرتكز على أن الأخذ بالخصوصيتين المعنيتين ها هنا، لا يجوز -بالدلالة المعرفية والاجتماعية السوسيولوجية- أن يفضي إلى النظر إليهما بمثابتهما يحملان طابعًا إطلاقيًّا، نعني «أنهما، معًا، تمتلكان اكتفاءً كليًّا زائفًا».

المعاصرة والفاعلية التاريخية

ومن شأن ذلك -من موقع منهجيّ تاريخيّ- أن كلًّا منهما يمثل بنية مغلقة، يراد لهما أن يبقيا كذلك مغلقتينِ؛ حرصًا على الأصالة، بل كذلك على المعاصرة والفاعلية التاريخية؛ ومن ثَم أن تبقيا مغلقتين وذلك كردٍّ محتمل وضروري على هذه الحالة، يمكن الإصرار على إبقائهما ثابتتينِ لا تفقدان ما يجعل منهما حالتين طارئتين، ولا تمتلكان عنصرًا جديدًا قد يتسرب من هنا أو هناك، ليجعل منهما عديمتَيِ الأصالة، هنا، نواجه المفاجأة التالية: أن قدرًا من الانزياح باتجاه أو بآخر، يمينًا أو يسارًا من جانب، وعبر امتهان أصالتها الدائمة وثبوتيتها (فوق التاريخ البشري)، إن ذلك سيعني بالضرورة امتهان جوهريتها المطلقة وتعريضها للأزمنة المتغيرة جَوْدةً وسُوءًا! إذن، لا للتخيل العارض وغير الأصيل؛ بسبب خضوعه للتغير والاختلاف والتعددية!

وحيث ينقل ذلك إلى ساحة المشخص والمعيش لتنزع منه قدرته على التعايش مع البشر، أي أولئك الذين يتعرضون لـ«الكل والجزء والمشخص»؛ فيفقدون الحركة والتغير والتجدد، نعني القدرة على الاستمرارية التاريخية التجديدية، من دون التخلي عن النسبة والجزئية قطعًا. هذه المصاير التاريخية المغلقة، قد تخرج «رُوحها من جسدها، ليبقى هذا عنوانًا للبشر «المعروفين دون رؤوس وذاكرات»؛ كي لا يروا غير رؤوس دون عقول، وغير أجساد فاقدة للعقل والكبرياء، وكذلك لمواضع النقد والتفكير النقديّ، دون هذين الحقلين المفتوحين! وسنلاحظ أن واقع الحال هذا الذي أتينا عليه، والذي يجعل منه الغرب الأوربي الليبرالي سبيلًا إلى وضع يده على واقع الحال المذكور، يلحّ على الإيضاح والتشخيص، وعلى نبذ ما هو دون ذلك، أو ما فوق ذلك. إن العالم العربي، بثرواته الهائلة، في حقول متعددة من مناطقه، يعجّ بشعوبه، التي خضعت للإذلال والإفقار والتهميش على أيدي الثنائي التاريخي، النظم العربية السياسية إياها، وكثير من فئاتها الثقافية والسياسية في الداخل أولًا، والإخضاع الغربي «الحضاري» لشعوب تلك النظم من الخارج ثانيًا. وهذا، بدوره، أنتج ثنائية إجرامية تقوم على التلاقي بين ذلك الإخضاع الغربي الرأسمالي- الاستعماري الإمبريالي من طرف، وبين نظم سياسية وفئات اجتماعية عربية قاصرة أو محاصرة من الخارج، على الأقل عبر بعض فئاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، وأحيانًا العرقية والطائفية.

واللوحة الجغرافية والعسكرية الراهنة تنظر لأولئك الأطراف: إما قصورًا فكريًّا وسياسيًّا وطنيًّا يحول دون حدوث تحركات تغييرية وانتفاضات لجموع الفقراء والمُفَقَّرين والمُذَلِّين، بغياب الحرية والديمقراطية خصوصًا في الطبقات المجتمعية الوسطى، وهذا، بدوره، جعل بعض (أو أكثر) فئات المثقفين العرب، يعلنون بأسى فظيع ويأس من مصادرة التحول الإيجابي الديمقراطي، من قبل من يسمون الأوغاد، إن بعضًا منهم اتجه إلى «خطوط حمراء» تجسد البؤس، وربما الخنوع واليأس، وهذا كله من منتجات النظم الأمنية، وإغلاقها أبواب التغيير؛ إضافة إلى انكسار كبير في نفوس فئات كبيرة أصبحت في قلب اليأس والبؤس والتشاؤم.

المنصف المرزوقي والمثل الفظّ

ها هنا، نتناول مثلًا فظًّا ومؤلمًا قدمه أحد المثقفين الفاعلين في المغرب العربي، وهو الأستاذ التونسي (المنصف المرزوقي) في فبراير 2001م. لقد أعلن الأستاذ المذكور -هكذا نُقِلَ إليَّ الخبر- من زملاء قرؤوا ما قاله في أثناء ندوة كانت بعنوان: «الواقع العربي وتحديات الألفية الثالثة- حوارات في الفكر المعاصر»، قال ما معناه وما أعلَمَنا به أحدُ الأساتذة المشاركين: لم يعد ممكنًا أن نفكر في إمكانية أن أبواب التغيير والإصلاح في العالم العربي الراهن ما زالت مفتوحة، بحيث يمكن فعل شيء من أجل إحداث تغيير في حقل أو بآخر، لقد طفح الكيل، وأصبحت أبواب التغيير في العالم العربي مغلقة أو يحاصرها ألف رقيب ورقيب؛ وهذا يقود إلى نهاية الموقف، وإلى الدخول في جدار مغلق؛ لأنه تحول إلى جدار فولاذي: هكذا قد يستنبط البعض نتائج مغلقة أو مغلّفة، وذلك على الطريق الذي ينتهي إلى ما أصبح على شفاه عدد متنامٍ من الباحثين والكُتاب؛ نعني الحطام التاريخي المجتمعي، والخراب الذي لا يأتي بعده إلا مزيد من ذاك الحطام.

وربما يسرع البعض إلى الوصول «لنهاية النهايات»! وهنا، يجتهد بعضهم إذ يعلن: إنها نهاية التاريخ «السوري أو العربي»! وهذه هي الكارثة العربية التي تنظر إلى مثل القول التالي: إن الخروج من التاريخ لم يعد دفعه عنا ممكنًا نحن العربَ، بكل هوياتنا الأيديولوجية والتاريخية والعرقية والطائفية، وكذلك الدينية والعالمية المتوسطية، نقول: إن ذلك لم يعد ممكنًا، ومن ثم، فإن تاريخنا، أي تاريخ كل أولئك الذين أسميناهم، والذين لم نسمهم، لم يعد قابلًا أي خيار آخر غير «القدر المكتوب علينا»! الموت في حالة بين الحياة والاحتضار! لقد تخربط تاريخ الشرق على أيدي أهله، من هذا أو ذاك: وكلهم وقّعوا على العملية! ولكن عدا إسهام الآخرين الأعداء والآخرين الحريصين على المشاركة في ذلك، ولكن عبر لعبة كونية تجعل الأعداء إياهم حلفاء أو أصدقاء حذرين أو ملثمين في «قبعة الثعالب والحيوانات الأصدقاء الأعداء». وفي ضوء العلوم الاجتماعية والنفسية، استطاع هؤلاء وآخرون أن يمارسوا اللعب على الشعوب العربية من مواقع عدة، ربما كانت الطائفية العرقية والدينية والجغرافية والعائلية والمالية… إلخ طريقًا (شرعيًّا داخليًّا إلى ذلك).

وها هنا، نسجل تجارب كثيفة وكثيرة تمت في هذا الحقل الواسع العريض، منذ ظهور خيارات الانقلابات العسكرية، بعد حصول نظم عربية، مثل: الأردن ولبنان وسوريا ومصر، على استقلالات شبه تامة أو قاصرة، خصوصًا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وعلينا أن نأتي على فكرة تجسدت في حدث تاريخي تم بين مصر وسوريا باسم (الوحدة) بين البلدين المذكورين، قبل عقود. لكن لم يَطُل الأمر حتى اتضح أن الذي حدث بين القُطرينِ المعنيين، لم يعودا قادرين على الاستمرار في إطار الوحدة الثنائية، أو اخترقتهم أحلام الخيانة والدونية!

فلقد اتضح -لأول مرة كثيفة في التاريخ العربي الحديث- أن الفكر أو (الحلم) بتأسيس كيان عربي جديد عبر محاولة التوحيد بين البلدين المذكورين أو بين غيرهما، أمر سيضطرب وسيُحدث شرخًا عميقًا بين سوريا ومصر، ناهيك عما سيحدثه أو ما قد يحدثه بانتكاساته السلبية على صعيد البلدان العربية الأخيرة.

*   *   *

لقد كانت تجربة الوحدة أو التوحيد المذكورة حدثًا أضاء ما كان البعض قد فكر فيه قبل حدوثه، قبل عقود هنا وهناك، وكذلك في أثناء ظهوره وهيمنته بين البلدين الاثنين المعنيين، وأيضًا ما انتهى إليه. ها هنا يمكن أن نسجل نقيضين اثنين كان قد فعلا أفعالهما القائمة حتى الآن، وهما الخطأ التاريخي القاتل والمتمثل ليس بغياب «المنظومة الديمقراطية.. وإنما بتغييبها، بل في إبراز منظومة سياسية أخرى، ليست مخالفة لتلك فحسب، إنما كذلك مؤسِّسة لنقيضها السياسي، نَعني دعائم التخلف والتخليف والإفقار والإذلال، والصمت على تحول العالم العربي إلى حقل لأشنع صيغ التخلف والتخليف والدكتاتورية، والحيلولة دون فتح أبواب الديمقراطية والمجتمع المدني ومبدأ تداول السلطة؛ مع إقصاء وتحريم مبادئ الحرية والمحاسبة، والبقاء في السلطة، أية سلطة حتى الموت، مع ترك احتمال التخلي عن السلطة من قبل الحاكم المستبدّ في إحدى حالتين: الموت الطبيعي، أو القتل؛ ويمكن إضافة حالة ثالثة، هي إيداع المذكور في السجون. على ما يحدث في هذا القطر العربي أو ذاك أو ذلك لتعميق البحث في ذاك للعالم كله. ولكننا ها هنا نجد أنفسنا مرغمين على التوقف عند منعطف كبير خطير ومفعم بالكثير من التفكر في شؤون المواطن العربي عمومًا، الذي ينتمي إلى الطبقات الوسطى المدمَّرة مع من تحتها، حتى نصل إلى ما لا يوجد بعدها: أما ما يوجد بعدها، فنأخذ طرفًا منه، ممثلًا بما نطلق عليه، وفق علم الاجتماع الاقتصادي «الهجرة»، الهجرة إلى أين؟ إنه سؤال مفتوح وقابل لاكتساب صيغ جديدة جدة المجتمعات الممزقة والمُمَلَّكَة من قبل ما اصطلحنا عليه «الدولة الأمنية.. فإذا وضعنا هذه الأخيرة بإزاء المصطلح السابق «الهجرة» وجدنا أمامنا مركبًا أيديولوجيًّا سياسيًّا بالغ الطرافة والخطورة. فالهجرة في إطار تلك الدولة الأمنية تعني إمكانًا للهروب، إذا أمكن، من مجتمع تحكمه الدولة الأمنية إياها، وعبر واحدة من الإمكانات القائمة.

إنه -في هذه الحال- هروب من مجتمع محكوم من قبل تلك الدولة عبر عدد من تلك الإمكانات: (1) هروب إلى الغرب «مهد الحداثة والحقوق والتقدم والرفاه»، هكذا يقال، (2) وهروب إلى السماء المسكونة بالفضاءات العديدة، مثل المساواة والعدالة والخير العميم، وكذلك مع بنية دينية يمكن أن تكون عادلة، ويمتلك المؤمن عبرها ما انتظره طوال حياته، خصوصًا في شطرها المأساوي (3) وهروب إلى «الداخل»، ممثلًا في الضمير الحي والمحبة والتوادّ في عالم جديد مأمول، إضافة إلى امتلاك ثروة من الحياة الصوفية وغيرها.

هروب الإنسان المقهور

نؤكِّد ذلك وغيره، علمًا أن الكثير من تلك الأحلام تمثل «أوهامًا» أو ما يقترب من الأوهام في مجتمع قلما يلتزم بواحد من آمال الناس في العدالة والحرية! وإذا كان الهروب يجد سبيله إلى ما يحلم به الإنسان المقهور والمذل والمجوع والمجهل… إلخ، فإن ما حصل عليه من «السعادة» كبديل بما فقده معظم عمره، ضمن الدولة الأمنية وفي الدول العربية، التي تصنع أفراد المجتمع المعني، بحيث يصبح «الجميع» ملوثين ومدانين تحت الطلب، فتأتي بذلك عملية توحيد المجتمع، التي أخفقت وتصدعت في «الواقع العربي الحي»، وبطريقة توحيد المجتمع في مرضه السريري الذي يفقد فيه الكرامة والحرية إلخ…، وربما كذلك حياته.

كذلك، فإن من يعترض الآن على برنامج مكافحة الإرهاب من قبل الولايات المتحدة والدول الأخرى، بتأكيد القول بأن تحقيق ذلك لا يتم عن هذا الطريق، إنما عن طريق البدء باجتثاث الحاضنة السوسيوتاريخية والفكرية والقيمية لحالة الإرهاب في صيغه المتعددة والمتكاثرة. وإذا كان هذا الرأي يمتلك مصداقية معرفية نظرية وحقيقة محضة، إلا أنه يفتقد بذلك مصداقيته التاريخية المجتمعية والسياسية التي تستدعي الاستجابة لمشروع اجتثاث داعش وأمثاله راهنًا ولكن ضمن طريقة التأسيس لمثل ذلك الشروع في عالم خرج من المذلة والمجاعة، إضافة إلى الجهل، ومن الاستبداد السياسي بأسسه الأربعة: استئثار بالثروة والسلطة والإعلام والمرجعية المجتمعية للسياسة، وكذلك في سياق تفكيك الدولة الأمنية، وتأسيس دولة العدالة والحرية والديمقراطية والحداثة.

على ذلك النحو المأتي عليه، نكون قد ضبطنا ركائز المجتمع أو المجتمعات العربية، هذه الركائز التي تعلن عن حضورها عمليًّا عبر تشخصها وتحويلها إلى فواعل جديدة بأن تأتي على ما تبقى في العالم العربي، وتفتح نوافذها وبداياتها أمام عوامل التفكيك لكل مظاهر الحضور المجتمعي العربي الإيجابي، بالمعايير الجاثية في عقل الدولة الأمنية، بسجونها وتفكيكها لكل ما ظهر سالمًا أو شبه سالم في ذلك الحضور المجتمعي المركب في تخلفه وتخليفه، كما في هيمنة «الدولة الأمنية»، التي تتصدى لمهمات تصديع المجتمعات الأمنية، وبعثرة الطبقات الوسطى؛ بهدف يثير الاستغراب والتساؤل: إن تفكيك هيمنة تلك الدول يخضع لإستراتيجيتين اثنتين: البناء وإعادة البناء مع توسيع أبوابها ونوافذها وكوادرها الملمومة من كل الطوائف والفئات والطبقات المجتمعية، مع التركيز على إعادة نمذجة الطبقات الوسطى، وتفكيك الطبقة الفقيرة والمُفَقَّرة في قاعدة المجتمع، والتنبه لأي محاولة للتفسير المجتمعي على أيدي (المجتمع المدني)؛ ذلك لأن هذا إن أعلن عن نفسه عبر الجمهور الواسع من المستنيرين والديمقراطيين والمتنورين من كل الطبقات والفئات، فإنه يكون قد بدأ بإرساء القاعدة المجتمعية للراهن والمستقبل.

توسيع دائرة الفاعلين

ثمة نقطة جديرة بالتفكيك وإعادة البناء مقدمة لإعادة البناء بعد وضع اليد على أهمية التربية الديمقراطية، وتوسيع دائرة الفاعلين، وإن كان الحديث ضروريًّا عن أهمية توسيع الدائرة المسؤولة اقتصاديًّا وسياسيًّا وتربويًّا، ومن ثم عن تركز العملية على أوساط واسعة أكثر اتساعًا من الطبقة المتوسطة، وذلك عبر تطوير الخطابين التربوي والثقافي وغيرهما، بكيفية مفتوحة.

وينبغي التشديد ها هنا على نقاط تأسيسية مركزية لمشروع عربي جديد (قديم) ينبغي أن يعلم بأنه إحدى النقاط الحاسمة ضمن مشروع التضامن، ولكن كذلك وفي السياق للمشروع إياه ضمن مقتضيات تطبيع عربي عربي، لا يبقى في حقل القشرة الخارجية، بل يتحول إلى أداة عظمى فعَّالة تؤسِّس، بنسبة كافية (على الأقل 60 في المئة) لتوحيد عربي مفتوح وطنيًّا وقوميًّا على الصعيد العام العربي، ومفتوح وطنيًّا وقوميًّا وإنسانيًّا على الصعيد العالمي. وهذا هو الحد الأدنى ولكن كذلك الأعلى لبناء عالم عربي يقوم على الأساس: لقد وصلنا إلى نقطة حاسمة إستراتيجيًّا ودوليًّا تؤسس للمزيد من التضامن والوحدة والتقدم، تلك هي التي تقوم على إيجاد شهادة نفي للانقسام الوطني والقومي ديمقراطيًّا ومن موقع منظومة البناء والتقدم والتوحيد من الدرجة الثانية، على طريق التوحيد الوطني والقومي العربي، بكل تجلياته وتكوناته وآفاقه، وهذا هو التوحيد، الذي لا يبقي حقلًا ولا بنية من عالم الأقطار العربية: لن يتم ذلك الهدف الأعظم، إلا بالصيغة الكلية. أما أن يتم الأمر بغير هذه الصيغة، فهذا أمر ينتج ما لا يحصى من المعوقات على طريق أية خطوة من خطوات التقارب بين مكونات العالم العربي بكل الاعتبارات والدلالات، إضافة إلى أن ذلك إن حدث على صعيد الواقع وضمن رؤية إمكانية التقارب، فإنه سيجعل للشعوب العربية مخاطر تاريخية حاسمة: البقاء منقسمين وممزقين إلى شعوب وطوائف ومجموعات تفتح باب الانقسام، هكذا أو هكذا، ولا يصبح البقاء في هذا الحيز فحسب، بل إن العاقل هو من يتيقظ بتجاربه وتجارب الآخرين من أهل النار!

حتى بالقياس الدقيق للأحداث، سوف تبقى الانقسامات والصراعات والحروب على النمط القائم في مرحلتنا، كما سيبقى العار والشنار بصيغة الحطام، الذي يمكن تحويله وتحويل ذلك كله إلى بناء (جديد)، فتح فيه كل ما يوصل إلى مراحل الموت السريري، الذي هو بتحديد مضبوط منطقيًّا واصطلاحيًّا: نعم الحطام! فهذا الذي بدأ عام 2011م، ولا نعلم متى يتراجع، ناهيك عن إيقاف الشمس.

ها هنا، يكمن الإيمان المطلق إذن، انتظروا ربيعًا عربيًّا مشروطًا بكم، بكم! يعني بنشاطكم النضالي، وإلا فما علينا إلا الصمت!