المثقفون على ضفتي الأطلسي في مواجهة كورونا سقوط الحضارة اليهودية - المسيحية

المثقفون على ضفتي الأطلسي في مواجهة كورونا

سقوط الحضارة اليهودية - المسيحية

إنها دوامة كورونا التي يدور العالم برمته في فلكها، الجميع موجود فيها والجميع متفرج أيضًا؛ إذ لا يبدو في الأفق القريب مخرج من هاوية الفيروس، أضف إلى ذلك أن الإجراءات المتبعة في بلدان عديدة، مالت صوب الحجر الصحي والعزل ومنع التجول في غير ما بلد. للأسف، يتميز زماننا بإهمال وجهة نظر المفكرين والعلماء، بل تبخيسها حقها، مع ذلك فإن إطلالة على مواقف المثقفين ومقالاتهم، سيكون مفيدًا لتأكيد أن شيئًا لا يعلو العلم والمنطق والتفكير النقدي.

الفيلسوف الفرنسي الأشهر ميشيل أونفراي، لم يتردد في القول في إحدى مقالاته: «ليس كورونا فيروسًا ووباءً طبيًّا فحسب، بل هو استعارة: مجاز لما أصبحت عليه فرنسا». وزاد في الأمر تصريحاته للمجلة الأسبوعية لو بوان، وانتشرت على نطاق واسع: «بالطريقة نفسها التي أظهر بها سقوط الاتحاد السوفييتي أوهام الغرب لأزيد من نصف قرن حيال هذه الإمبراطورية الماركسية اللينينية التي تحولت إلى نمر من ورق، فإن الوباء يظهر بقسوة سقوط أوربا الماستريختية التي تُقَدَّمُ منذ أكثر من ربع قرن على أنها عملاق اقتصادي من شأنه التصدي لكبرى إمبراطوريات العالم: فهي غير قادرة على صنع الكمامات وتوفيرها للعاملين في القطاع الصحي، ومستقبلي الوباء! إيطاليا التي هي جزء من الاتحاد الأوربي ويبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة، لديها عدد وفيات جراء فيروس كورونا أكثر من الصين التي يبلغ عدد سكانها مليارًا و300 مليون نسمة! وبناءً عليه فإن أوربا قد أضحت العالم الثالث الجديد».

وقد أدرج أونفراي الأزمة بنطاق أوسع حين عدها «ضمن مسألة انهيار الحضارة اليهودية – المسيحية التي تطرق إليها في كتابه «الانحطاط». ولا يبدو أونفراي بتصريحاته اللاذعة كذلك ضد سياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حالة خاصة، فها هو الكاتب والاقتصادي الشهير جاك آتالي يقول :«إذا كشفت السلطات القائمة في الغرب عن أنها غير قادرة على السيطرة على المأساة التي بدأت توًّا، فإن نظام السلطة برمته وجميع أسس السلطات الأيديولوجية ستكون موضع مساءلة، وسيُستبدَل بعد وقت عصيب نموذج جديد قائم على سلطة مختلفة وعلى الثقة بنظام قيم آخر مختلف. وبعبارة أخرى من الممكن أن ينهار نظام السلطة القائم على حماية الحقوق الفردية. وبانهياره تنهار معه الآليتان اللتان وضعهما: السوق والديمقراطية، حيث هما طرق لإدارة تقاسم الموارد الشحيحة مع احترام حقوق الأفراد».

استشراف عالم ما بعد الكورونا

بيد أن توجيه الانتقاد إلى النظام الغربي برمته، لن يجيء إلا مترافقًا مع استشراف عالم ما بعد الكورونا، وضمن هذا السياق، يبدو جاك آتالي ميالًا للتفاؤل إذ يقول: «حين سيبتعد الوباء، سنشهد ولادة شرعية جديدة للسلطة: وستكون مؤسسة لا على الإيمان، ولا القوة، ولا العقل ولا على النقود بالطبع. ستؤول السلطة السياسية لهؤلاء الذين عرفوا كيف يظهرون التعاطف تجاه الآخرين، ستكون القطاعات الاقتصادية السائدة: الصحة، الضيافة، الغذاء، التعليم والبيئة».

استشراف عالم ما بعد الكورونا، ووضع أزمة الحضارة الغربية في سياقها المعولم وتحدياتها التقنية، كان البحث الأقوى والأكثر انتشارًا الذي كتبه المؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري، ونشرته يومية الفاينانشال تايمز البريطانية المرموقة: «نواجه خيارين مهمين بشكل خاص. الأول بين الرقابة الشاملة وتمكين المواطنين. والثاني بين العزلة القومية والتضامن العالمي… إن لم نكن حذرين، فقد يمثل الوباء فاصلًا مهمًّا في تاريخ المراقبة… وإحدى المشكلات التي نواجهها في فهم أين نحن من المراقبة، هي أن أحدًا منا لا يعرف بالضبط كيف نُراقَبُ، وما قد تجلبه السنوات المقبلة».

ويلفت هراري النظر إلى أن «التدابير المؤقتة لها عادة سيئة في تجاوز حالات الطوارئ، وبخاصة أن هناك دائمًا حالة طوارئ جديدة تكمن في الأفق. حتى عندما تنخفض الإصابة بفيروس كورونا إلى الصفر، يمكن لبعض الحكومات المتعطشة للبيانات أن تجادل بأنها بحاجة إلى إبقاء أنظمة المراقبة البيومترية؛ لأنها تخشى حدوث موجة ثانية من كورونا، أو لأن ثمة سلالة جديدة من فيروس إيبولا تتطور في وسط إفريقيا، أو لأي سبب آخر».

ولئلا يبدو المؤرخ أَمْيَلَ للتشاؤم من ناحية هو يرسم أجواء المراقبة الكلية الشبيهة بأجواء رواية جورج أورويل الشهيرة (1984م)، يقترح هراري تفعيل الثقة -وقد فقدت- بين الناس والسلطة والعلم ووسائل الإعلام «قوض السياسيون غير المسؤولين عمدًا الثقة في العلوم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. والآن قد يميل هؤلاء السياسيون غير المسؤولين إلى السير في الطريق السريع نحو الاستبداد، بحجة أنه لا يمكن الوثوق بالجمهور لفعل الشيء الصحيح» أما الخيار الثاني فيبدو هراري مروجًا له: «الخيار الثاني المهم الذي نواجهه هو بين العزلة الوطنية والتضامن العالمي. إن كلًّا من الوباء نفسه والأزمة الاقتصادية الناتجة عنه مشكلتان عالميتان. لا يمكن حلهما بشكل فعال إلا من خلال التعاون الدولي». وينهي مقاله بالدعوة إلى التضامن العالمي: «تحتاج البشرية إلى الاختيار. أنسير في طريق الانقسام، أم سنتبنى طريق التضامن العالمي؟ إن اخترنا الانقسام، فلن يؤدي ذلك إلى إطالة أمد الأزمة فحسب، بل سيؤدي على الأرجح إلى كوارث أسوأ في المستقبل. وإن اخترنا التضامن العالمي، فسيكون هذا النصر ليس فقط ضد كورونا، بل ضد جميع الأوبئة والأزمات المستقبلية التي قد تهاجم البشرية في القرن الحادي والعشرين».

أجواء الرقابة الكلية الشاملة التي شغلت المؤرخ هراري وغيره من الكتاب والمفكرين، ما كان من الممكن أن تمر من دون تعليق أحد أشهر الشخصيات المعبرة عن عصرنا الأميركي: إدوارد سنودن، الذي حذر من أن دول المراقبة التي ننشئها الآن سوف تستمر حتى بعد فيروس كورونا «وأنه بمجرد إخراج تقنيات المزج بين تطبيقات الذكاء الاصطناعي- من بينها مثلًا خاصية التعرف إلى الوجوه- من «الصندوق» سيكون من الصعب إعادتها».

الاتفاق الأخضر الجديد

بيد أن المساءلة القوية للنظام الرأسمالي الليبرالي المتوحش، لم تأت بشكل مباشر من مفكري القارة العجوز، بل من الولايات المتحدة الأميركية، مثل الكاتبة والناشطة الشهيرة ناعومي كلاين المعروفة بكتبها ومواقفها المناهضة لسياسة بلادها الاقتصادية. ناعومي كلاين فندت خيارات الرئيس دونالد ترمب الأولية بمواجهة فيروس كورونا، من ناحية ميله لإنقاذ الاقتصاد أولًا؛ إذ بينت أنه يهدف إلى إنقاذ انتقائي، يَعْمِد بموجبه إلى ضخ النقود لصناعة السفن والطائرات مثلًا بدلًا من توجيهها نحو الفئات الأضعف، وخصوصًا المياومين ومن لا يحظون بتأمين صحي، وستضع ناعومي الأزمة في سياق أميركي وعالمي من الأمس القريب منطلقة من الأزمة المالية عام 2008م: «نحن نعرف سيناريو عام 2008م، وهي المرة الأخيرة التي شهدنا فيها انهيارًا ماليًّا عالميًّا، حيث راجت أنواع الأفكار السيئة نفسها عن عمليات إنقاذ الشركات.. ودفع الناس العاديون الثمن.

في كتابي «عقيدة الصدمة: صعود كارثة الرأسمالية» وصفت التكتيك القاسي الذي تلجأ إليه حكومات اليمين المتطرف. فمن بعد حادث- صدمة، مثل حرب، أو انقلاب، أو هجوم إرهابي، أو انهيار في الأسواق أو كارثة طبيعية، فإن الحكومات تستغل ارتباك الناس، وتعلق العمل بالديمقراطية، وتدفع باتجاه سياسات السوق الحرة الراديكالية التي تثري 1% على حساب الفقراء والطبقة الوسطى».

لكن الكاتبة تستدرك وتقدم حلًّا من خلال مثال آخر من الأمس القريب وكيف أن أزمة عام 1929م والكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن المنصرم، قد أدَّيَا على العكس إلى تغيير في النظام القائم ونهضة اجتماعية واقتصادية، وصفتها كلاين بـ«القفزة التطورية»؛ إذ قامت الحكومات وقتها بإنشاء شبكات أمان اجتماعية تنقذ المواطنين إبان الأزمات الكبرى مثل الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي. وتذهب كلاين أبعد من ذلك حين تطرح حلًّا من وجهة نظر اقتصادية، تسميها الاتفاق الأخضر الجديد، فبدلًا من إنقاذ الصناعات القذرة من القرن لماضي، «علينا تعزيز الصناعات النظيفة التي ستقودنا إلى بر الأمان في القرن المقبل». الانحياز لبيئة وصناعات نظيفة واقتصاديات شفافة هي من الحلول المطروحة، فضلًا عن صواب المفكرين بانتقاد الحكومات التي تراكم الأسلحة وتكدسها وتهمل قطاعًا صحيًّا يستفيد منه كل الناس، ليغدو عاجزًا حتى عن توفير الكمامات.

في مديح الصداقة: مراسلات ألبير كامو ورينيه شار أخوَّتنا تذهب أبعد مما نتصوره ونحس به  أكثر فأكثر، سنزعج تفاهة المستغلين

في مديح الصداقة: مراسلات ألبير كامو ورينيه شار

أخوَّتنا تذهب أبعد مما نتصوره ونحس به أكثر فأكثر، سنزعج تفاهة المستغلين

هل الصداقة الصافية ممكنة حقًّا بين المبدعين؟ أيمكن للصداقة أن تسمو فوق كل شيء وتغدو مرادفة للأخوة الحقة؟ إنها الأسئلة الأولى التي تتبادر إلى الذهن من بعد قراءة رسائل اثنين من أشهر أدباء فرنسا في القرن العشرين: الروائي والمفكر ألبير كامو (1913- 1960م) والشاعر رينيه شار (1907- 1988م). والجواب عن السؤالين أعلاه لن يكون إلا بالإيجاب. ذلك لأن الرسائل البالغ عددها نحو مئة وأربع وثمانين رسالة، التي تغطي نحو اثني عشر عامًا، تلقي الضوء على تلك الصداقة الاستثنائية التي جمعت بين الأديبين، وكانت عُراها تتوثق كلما امتد الزمن. يكفي ملاحظة أن وتيرتها خفت بدءًا من عام 1956م، والسبب أن ألبير كامو استأجر شقة في المبنى نفسه الذي يقطنه رينيه شار في شارع شانالييه في الدائرة السابعة. النسخ الأصلية لتلك الرسائل محفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية وفي مركز ألبير كامو إيكس إن بروفاتنس. وقد خرجت إلى النور للمرة الأولى عام 2007م، وأعيد نشرها ضمن طبعة شعبية منذ سنوات قليلة.

بدأت قصة الصداقة حين أراد ألبير كامو أن ينشر «أوراق إيبنوس» لرينيه شار لدى دار النشر الشهيرة غاليمار، وكان كامو مشرفًا على إحدى سلاسلها. وكان ذلك عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية بوقت قليل. في تلك الحقبة كلل الشاعر رينيه شار بتاج مجد المقاومة، حيث كان يكتب تحت اسم مستعار هو الكابتن ألكساندر. استعار شار لتلك الأوراق اسم إيبنوس وهو إله النوم في الميثيولوجيا الإغريقية، ليجسد الرجل الذي يراقب شعبه في أثناء الليل، لكنه سريع في الاستيقاظ حين يُطلب، مشيرًا بذلك إلى المقاومة. تلك أجواء الالتزام الشهيرة، التي ستلقي بظلالها أيضًا على ألبير كامو.

بيد أن أمرًا آخر أضاف لتلك الصداقة قوة دافعة؛ إذ بعدما نشر ألبير كامو كتابه «الإنسان المتمرد» هاجمه الجميع، ولن يجد في وضعه الصعب ذاك كتفًا تسنده وتمده بالقوة إلا كتف صديقه الشاعر رينيه شار.

سيظل ألبير كامو شخصية فريدة في الثقافة والتاريخ: كاتب عظيم ومفكر ملتزم ونادر، ستشاء المصادفة أن يلتقي رجلًا آخر استثنائيًّا، رينيه شار، الشاعر الموهوب والمقاوم. الرسائل التي دوَّنت رقيّ تلك العلاقة، تبين بشكل لا لبس فيه الاشتراك الأخلاقي والروحي بين الرجلين، على نحو يبدد أي تعكير لتلك الصداقة، وفيها نشهد تفتح ألبير كامو على شعر رينيه شار وإدراكه بصورة قطعية ربما كيف أن شاعرًا عظيمًا واحدًا فقط، لكفيل بفتح باب فن الشعر على مصراعيه، يعترف كامو بذلك عام 1956م: «قبل أن أتعرف إليك، ما اهتممت بالشعر»

هي قصة رائعة للصداقة، «أخوة عميقة» كما صرح ألبير كامو. وهذه الرسائل تقتفي التزامهما المتبادل، شكوكهما، فرحهما وقرب بعضهما من بعض. لكن، كما يحلل الأمر رينيه شار فإن «أخوتنا تذهب أبعد مما نتصوره ونحس به. أكثر فأكثر، سنزعج تفاهة المستغلين، غايات العرافين من كل صوب في عصرنا. هذا أفضل. معركتنا الجديدة تبدأ وعلة وجودنا أيضًا»

سينتهي تبادل الرسائل عشية الوفاة المفاجئة لكامو في الرابع من يناير 1960م، بعد ثلاثة أيام من اللقاء الأخير في لورماران.

من ألبير كامو إلى رينيه شار

(باريس) 26 أكتوبر 1951م

عزيزي رينيه،

أفترض أنك تسلَّمتَ الآن «الإنسان المتمرد». تأخر صدوره قليلًا بسبب مشاكل الطباعة. بطبيعة الحال، أحتفظ لك عند عودتك بنسخة أخرى، وستكون النسخة الجيدة. قبل نشر الكتاب بمدة طويلة، أثارت صفحات لوتريامون المنشورة في «Cahiers du Sud» (دفاتر الجنوب) رد فعل غبي وساذج بشكل خاص، الذي كان شريرًا من جانب بروتون….. بالتأكيد، لن يصلح أموره مع الثانوية.

أجبت بنبرة أخرى، وفقط لأن تأكيدات بروتون المجانية كان بإمكانها أن تخاطر بجعل الكتاب يبدو على خلاف ما هو في الحقيقة. هذا لإطلاعك على الأخبار الباريسية، التي دائمًا ما تكون تافهة ومتعبة، كما ترى.

أشعر بذلك أكثر وأكثر، لسوء الحظ. إقصاء هذا الكتاب جعلني فارغًا تمامًا، وفي حالة غريبة من الاكتئاب «الجوى». ومن ثم، شعورٌ بالوحدة… ولكن لست أنت من أستطيع أن أعلمه ذلك، فكّرت كثيرًا في محادثتنا الأخيرة، وفيك، وفي رغبتي بمساعدتك. ولكن هناك شيء ما فيك يقلب العالم. ببساطة، أنت تبحث، وأنا أبحث عن نقطة ارتكاز. على الأقل تعلم أنك لست وحدك في هذا البحث. ما قد لا تدركه جيدًا هو إلى أي حد أنت بحاجة لأولئك الذين يحبونك، والذين من دونك سيكونون بلا قيمة. أتحدث أولًا عن نفسي، أنا الذي لم يستسلم قط لرؤية الحياة تفقد معناها ونسغها. لأقلْ لك الحقيقة: إنها الوجه الوحيد الذي لم يسبق لي أن عرفته عن الألم. أتحدث هنا عن آلام العيش.

ولكن هذا غير صحيح، يجب القول: إنه ألم عدم العيش. وكيف السبيل إلى العيش في عالم الظلال هذا؟ من دونك، من دون اثنين أو ثلاثة من البشر الذين أحترمهم وأعتز بهم، فإن كثافة ما ستنقض الأشياء بشكل نهائي. ربما لم أقل لك هذا بما يكفي، ولكن لن أتوانى عن قول ذلك عند اللحظة التي أشعر بك فيها حائرًا قليلًا. ثمة قليل جدًّا من فرص الصداقة الحقة اليوم، حيث أصبح البشر متحفظين جدًّا حيالها أحيانًا، ومن ثم كل واحد يظن أن الآخر أقوى مما هو عليه، بيد أن قوتنا هي في مكان آخر؛ إذ هي تكمن في الإخلاص.

هذا يعني أنها موجودة أيضًا لدى أصدقائنا وأننا نفتقدها جزئيًّا إن اشتقنا لهم. لهذا السبب أيضًا، يا عزيزي رينيه، عليك ألا تشك في نفسك، ولا في عملك الذي لا يضاهى؛ إذ سيكون ذلك شكًّا في أنفسنا أيضًا، وفي كل ما يجعلنا أسمى. هذا الكفاح المستمر أبدًا، هذا التوازن المنهك (ولأي درجة أشعر أحيانًا بإنهاكه!) يوحدنا، بعض منا، اليوم. الشيء الأسوأ في نهاية المطاف هو أن تموت وحيدًا، ممتلئًا بالازدراء. وكل ما أنت عليه، أو ما تفعله، يوجد أبعد من الازدراء.

عدْ بسرعة، على أي حال. أغبطك على خريف «لاني» و«السوروغ»، وأرض الأرتيديين. حل الشتاء هنا وسماء باريس جهّمت سحنتها السرطانية. اختزنْ بعضًا من الشمس وشاركني بها.

خالص المودة لك.

مع صداقتي لعائلة ماتيو، ورو وللجميع.

من ألبير كامو إلى رينيه شار

«لو بانولييه» 30 يونيو 1947م

عزيزي رينيه شار

سعدت جدًّا برسالتك. هناك عدد قليل من البشر اليوم الذين أحب لغتهم وسلوكهم. وأنت واحد من هؤلاء – الشاعر الوحيد اليوم الذي تجرأ على الدفاع عن الجمال، وعن قول هذا لك صراحة، وإثبات أنه يمكن للمرء أن يناضل من أجله كما يناضل للقمة العيش في الوقت ذاته. أنت تذهب أبعد من الآخرين، من دون أن تستبعد شيئًا.

هل يمكنني الآن أن أطلب منك خدمة، مثل رفيق قديم؟ الأمر أنني: قد سئمت من باريس والعالم المجرمين الذين ألتقيهم فيها. رغبتي العميقة هي العودة مجددًا إلى بلدي الجزائر، هي بلد الرجال، بلدٌ حقيقي، قاس، ولا يمكن أن ننساه. لكن لأسباب شديدة الاختلاف، فإن هذا غير ممكن. في حين أن فرنسا البلد الذي أفضله هو بلدك، وبالتحديد سفح «لوبيرون» وجبل «لوري» و«لوريس» و«لورمارين»… إلخ.

حتى الآن، لم أغتنِ من الأدب. لكن رواية «الطاعون» ستدرّ عليَّ بعض المال. أودّ شراء منزل في هذا البلد. هل يمكنك مساعدتي؟

ربما تتخيل ما يمكن أن يناسبني. منزلٌ بسيط جدًّا، وأيًّا كان اتساعه (لدي طفلان وأود أن أستضيف فيه من حين لآخر والدتي)، وأن يكون بعيدًا أكثر ما يمكن، مؤثثًا إن أمكن، وأن يكون أكثر ملاءمة من أن يكون مريحًا، ومطلًّا على منظر طبيعي يمكننا النظر إليه مدة طويلة. أعتذر عن هذا الطلب وسأستعلم أيضًا حول هذا الموضوع لدى آخرين. لكن أنت من أثق فيه: فأنت ستضع نفسك في مكاني. لهذا السبب أكتب لك كل هذا، ببساطة. إذا كنت لا تعرف أي شيء حول ذلك، فلا تقلق نفسك. سأفكر بك دومًا بشعور أخوي.

ألبير كامو

من رينيه شار إلى ألبير كامو

ليل 17 أغسطس 1949م

صديقي العزيز، هذا الصباح مفاجأة جميلة من البريد مع رسالتك… الصيف طويل من دونك و«ليل» حيث أنا موجود منذ مدة خمسة أيام (حتى نهاية سبتمبر) ترغب في رؤيتك مرة أخرى. هل أنت قادم هنا بعد رجوعك؟ أرجوك أبهج قلبي بحضورك. رأيت فرانسين بالأمس. يبدو أن الأمور جيدة في باليرمو. قالت لي: إنها تجد الوقت طويلًا؛ بسبب الطريق الطويل -ذي مئة الفرسخ- الذي تغوص فيه محتذية حذاء (عقلة الأصبع) لكنها تأمل في عودتك قريبًا.

شكرًا لك من القلب، ما هو أفضل من أنك تذكرتني، هو أنك تؤكد وتشجع وجودي الشعري.

مع ذلك، عد يا عزيزي ألبير؛ لأنني أفتقدك كثيرًا.

في باريس، استمر سلام اليرقات حتى مغادرتي التي على الأرجح لن تؤدي إلى انقطاعه.

سأحيل كلير إلى الأسماء التي تشير إليها، وسأكتب إلى هيرش من أجل تقديم ما هو حار ومستعر وغامض للقراء الجيدين في ريو سان باولو.

لك ما عندي من المودة الأخوية يا صديقي العزيز

من رينيه شار إلى ألبير كامو

ليل سور سورغ 4 أكتوبر 1949م

عزيزي ألبير

أرسل لك خطابًا تلقيته للتو. كاتبه هو الناقد فرانك إلجار (واسمه الحقيقي روجر ليسباتس، 25 شارع لا مارك باريس هاتف مونت 96-35). إنه رجل شجاع ومخلص جدًّا، وأصم أيضًا، للأسف! هل أنت في شامبون؟ كان من المحزن رؤيتك تغادر بسرعة هكذا، ولكنه شيء مفهوم طبعًا!

آمل أن مسرحيتك «العادلون»لا تسبب لك الكثير من الهموم.

أطيب المشاعر لفرانسين وكثير من المودة لك.

من رينيه شار إلى ألبير كامو

ليل سور سورغ الجمعة أكتوبر 1949م

عزيزي ألبير

أود جدًّا من أجلك أن تنتهي همومك بدلًا من أن تنهيك هي. يزعجني الأمر عندما لا تكون «سعيدًا» (لك الحق في السعادة)، للصيف شيخوخة جميلة هنا، يستمر في العبور، ويجوب الحقول وعصاه المورقة في يده. ولكن يا لهذا القلق المغناطيسي في الهواء والأشياء! تتأذى الكائنات ببساطة، وثمة دائمًا الفجر من أجل الجروح. أن تحب، لا تحب؟ يا للدوار الطويل… ولا يمكننا أبدًا البقاء اثنين. بمجرد أننا اثنان قطعيًّا! الآخرون، أصحاب الأخلاق التي بنيت مسبقًا والتي لا يوجد شيء يسمح بهدمها إلا سعادة المرء… هل هذا يكفي؟ لم نعد نعرف، نستمر في البقاء. لقد أرسلت لغاستون غاليمار قصائد الصباحيات اليوم. الجزء الثاني من هذا الكتاب كلفني كثيرًا. إنه حديث العهد، ويحتوي على «التجربة» التي ألمح لها أعلاه. سأكون سعيدًا لو أنك تقرؤه بعيون القلب التي هي عيناك، قبل أن يتدخل فيه مسؤولو الطباعة. لو لم أخف أن أزعجك، لكنت قد أرسلت لك المخطوطة مباشرةً. لم أجرؤ.

أرجو أن تبلغ صداقتي لفرانسين، وتقبل الأطفال.

بمودة لك

من ألبير كامو إلى رينيه شار

7 نوفمبر 1949م

عزيزي رنيه

نعم، أظن أنني فهمت – وأتفق معك. والحقيقة هي أن المرء يجب أن يلتقي الحبَّ قبل أن يلتقي الأخلاقَ، وإلا هلك الاثنان. الأرض قاسية. أولئك الذين يحبون بعضهم يجب أن يولدوا معًا. لكننا نحب أفضل كلما تقدمنا في الحياة، والحياة هي نفسها التي تفصلنا عن الحب. لا يوجد مخرج – باستثناء الحظ أو البرق أو الألم.

«الصباحيات» جعلتك أهم. تتقدم بثقة – على هذا المسار على الأقل، لن تتردد أبدًا. كل شيء يثمر من أجلك- أحد المبدعين القلائل اليوم.

أنا أكتب لك من السرير. انتكاسة من مرضي القديم. ستة أسابيع مستلقٍ وبعد ذلك سيكون هنالك أشهر لاستعادة قواي. التحصن صعب. لقد تجاوزت عمر الحلم. ومن ثم، فإن جهدي المستمر كان لصد الوحدة. الاختلاف، الحميم. ما أردت أن أكون معه، ولكن ثمة قدر، وهذا هو إيماني الوحيد. أما أنا فهو في هذه المعركة حيث لا يوجد شيء سهل.

أكتب لك كما أكتب لصديقي ولأخي. لكن، لا تظنني حزينًا جدًّا، أنت تعلم أن لدي فلسفة. لدي أمنيات لك، الأمنيات الأكثر حرارة، وأدعو لك بالحظ… إلى لقاء قريب مع خالص المودة.

من ألبير كامو إلى رينيه شار

باريس 19 سبتمبر 1950م

كنت أنوي الكتابة لك، ولكنك سبقتني في ذلك. بيد أن «الفوج» جعلني «ألزاسيًّا». أزن (معنويًّا) طنًّا. تمطر هنا، في باريس بسحنتها المليئة بالبثور. أحسدك أن تكون في البلد، البلد الوحيد. لقد وصل الشاب سيناك إلى العاصمة وكله شوق لك. إنه على حامل ثلاثي حرفيًّا، حين يتحدث عما أنت عليه. أنا سعيد بهذا، لكنني أرجو، بسذاجتي، أنه لم يثقل عليك. ارتجفت قليلًا حين حدثني عن الأيام الثمانية في ليل. إذا كان هذا قد أعجبك فهذا أفضل. ولكن لا تحتمل شيئًا بدافع الصداقة من أجلي، أحبك حرًّا كما أنت.

أنتظر هنا الحكم الذي قد يقودني قريبًا منك. لكنني سأحتاج إلى البقاء قليلًا في باريس، من أجل عملي على الأقل.

العمل يتقدم في «الفوج» حيث السماء تمطر ليومين من ثلاثة أيام. لكن ما زال لدي الكثير لأفعله. لا أستطيع الانتظار لإنهاء ذلك، أنت تعرف ذلك. يخيل إلي بغباء أن الحياة ستبدأ بعد ذلك. متى تعود؟ أخبرني عن خططك لأوفر لك بضعة أيام. أفكر كثيرًا بك وفرانسين تطلب مني أن أبلغك بصداقتها. أراك قريبًا، بكل إخلاص.

ألبير كامو

تحياتي للأصدقاء

من رينيه شار إلى ألبير كامو

ليل الثلاثاء سبتمبر 1950م

عزيزي ألبير،

كانت رسالتك أفضل من رسالة. أجد المنحى الذي تأخذه التبادلات بين الكائنات التي تعارفت واختار بعضها بعضًا تمامًا مثل حبال مهجورة في الحقل. العُقد تحت رحمة الاضطراب ونزوات الحرارة! لم أكن أعرف أين أجدك، على الأقل كي أرمقك بإحدى تلك النظرات، نظرات رفيق صموت لكن محب. لا تظن أن بعدك مقبول باستخفاف. بالطبع، ولست أريد الإشارة إلى أثر الأمكنة والفراغات التي تحدد كل صداقة جادة. وأخيرًا ها أنت.

لم يثقل سيناك علي (بمجرد أن فهم أنه من المناسب إغلاق آلته التصويرية…) هو شاب صريح وعاقل ومليء بالشغف كما نحب أن نكتشف أمثاله كذلك في الأدغال السوداء التي يشكلها شباب اليوم. يمكن بالتأكيد الاعتماد عليه. سينضج من دون أن يفسد نفسه. فرصة كبيرة أنك تحمل في طريقه الكأس المضادة للسموم بيدك. يعشقك (تهذيب مقابل تهذيب!)

عزيزي ألبير، إذا أتيت إلى الجنوب، فأرجو أن تبلغني بذلك. أتسكع هنا قدر الإمكان في طيات معطف الصيف الذي يوشك على الانتهاء. مع ذلك فإن النباتات الموسمية ماتت في السورغ. نأكل في المساء على نور المصباح المضاء جيدًا. أسمح لنفسي أن أطلب منك أن تعتني بنفسك بقسوة وتصميم. هذه ليست أمنية بسيطة، أمنية غامضة. الرغبة في كتابة القصائد لا تتحقق إلا في حدود دقيقة، حيث تكون القصائد مفكّر فيها ومحسوسة من خلال أصحاب نادرين جدًّا.

أنا صديقك من كل قلبي.

رينيه شار

صداقتي لفرانسين. أفكر بجان وكاترين

من رينيه شار إلى ألبير كامو

ليل 29 سبتمبر 1950م

عزيزي ألبير

حدثتك هذا الشتاء عن «بوتيجه أوسكوريه» مجلة مارغريت دو باسيانو وإمكانيتها أن تحسن شكل هذه المجلة الرائعة التي دسها نجم «البلياد» في المطبخ! لقد أُنجز ذلك ببطء. على الرغم من ميلي القليل للمجلات الأدبية، فإنني أعتقد أن هذه المجلة تستحق ألا ندعها تسقط وأن نساعدها من وقت لآخر بنصوصنا، نصوصك أنت خاصة، ولا سيما تلك التي تشغف بها مارغريت دو باسيانو كثيرًا. الشباب المثيرون للاهتمام الذين نقدرهم أنا وأنت يمكن أن يُنشر لهم فيها بشكل دوري. مارغريت دو باسيانو أنيقة جدًّا، سخية جدًّا. لقد ساعدت بالفعل عددًا غير قليل من هؤلاء الشباب من بين زملائي. أعلم أنها ستكون سعيدة جدًّا بأن تراك. إن لم يزعجك ذلك، فستكون نصائحك مفيدة جدًّا لها، حين تأتي. أتحدث معك بحرية.

عزيزي ألبير، أتطلع إلى رؤيتك قريبًا وأرسل لك عاطفتي الأخوية.

رينيه شار

باسيانو: هاتف إليزيه، 81-54 شارع سيرك 8

من ألبير كامو إلى رينيه شار

الإثنين 23 أكتوبر 1950م باريس

عزيزي رينيه

افتتح عودتي إلى باريس أسبوع طويل من الأنفلونزا. صحيح، المدينة كلها تستخدم محارم تنظيف الأنف. ومع ذلك، كان لدي الوقت للاتصال بالسيدة دو باسيانو ووعدتها بنص للعدد القادم من المجلة. بدا لي أنها سعيدة جدًّا بذلك، وأنا، أردت فقط أن أكون لطيفًا معها ومعك، بما أنك اصطفيتها. رأيت أيضًا رينيه مينارد، الذي بدا لي شخصًا جيدًا، وافترقنا على أن نلتقيك مرة أخرى. إضافة إلى ذلك، فقد ذهبت إلى فندق قرب «القصر الملكي» هروبًا من المنزل حيث تتكدس فرانسين ووالدتها والأطفال، حيث أعمل هناك كل يوم، بشكل جيد، أمام الحديقة.

هل قلت لك: إنني وجدت شقة في شارع «مدام»؟ لكنني غارق في الديون حتى رقبتي الآن، وهو ما يجعلني أبدو أصغر سنًّا. ومن المقرر أن أنتقل في أول سبتمبر، وهذا يعني أنك سوف تشارك كما آمل في تدشين منزلي.

إنه النهار بالطبع، والجو حار ورطب. أفضل الخريف في «السروج» أكثر. لكنني أعمل وهذا ينقذني من كل شيء. لديّ أيضًا انطباع بأنني أسيطر على الوضع، جسديًّا على الأقل، وكنت بحاجة إلى تلك الثقة حقًّا. شهر آخر من الراحة هذا الشتاء وكل شيء سيكون على ما يرام.

متى تصل؟ أنتظرك الآن كي نسخر قليلًا من مؤتمر معرض البيع هذا الذي تُعلق عليه بحرارة. من وجهة النظر هذه، فإن باريس لا خيار لديها. صحيح أنني لا أرى أي شخص هنا.

سامحني يا عزيزي رينيه، هذه الفراغات وهذا الصمت الذي تتحدث عنه. لقد كان هذا العام صعبًا جدًّا لي، وعلى جميع المستويات، أعتقد أنني أخبرتك ذلك، ولا أحب أن أتحدث عن نفسي بالتحديد. ولكن في كل هذا، ساعدني عددٌ قليلٌ جدًّا من الناس على العيش. كان هناك حضورك، كن متأكدًا، صداقتك ونوع الأمل الذي تفترضه. إنني محظوظ كثيرًا بأنني التقيتُك.

أراك قريبًا أليس كذلك؟ أتصور أنك ستأتي مع قصائد الصيف وأنتظرها أيضًا.

بمودة جدًّا لك.

ألبير كامو

مع مودتي للأتريديين! أعني لآل ماتيز بالطبع.

من ألبير كامو إلى رينيه شار

سوريل – موسيل

أور لو سوار 30 في سوريل – موسيل

17 سبتمبر 1957م

أنا في النورماندي مع الأطفال، باختصار بالقرب من باريس، وأقرب إليك بالقلب. الزمن يفصل بيننا، هو جبان فقط للمتباعدين- وإلا فإنه النهر الذي يحمل الحركة ذاتها. نحن متشابهان جدًّا، وأنا أعلم أننا نريد أن «نختفي»، وألا نكون شيئًا في النهاية. لكنك لو تختفي مدة عشر سنوات، ستجد في نفسي لك الصداقة نفسها، شابة يانعة كما كانت حالتها قبل سنوات عندما اكتشفتك في الوقت ذاته الذي اكتشفت فيه عملك. وأنا لا أعرف لماذا، لدي شعور بأن الأمر هو ذاته لك، تجاهي. في أي حال، أريد منك أن تشعر دائمًا بالحرية الواثقة معي.

كلما ازددت سنًّا، كلما وجدت أنه لا يمكن العيش إلا مع البشر الذين يحررونا، الذين يحبوننا بعاطفة خفيفة حين نحملها بمقدار ما هي قوية حين نشعر بها. الحياة اليوم قاسية جدًّا، ومريرة جدًّا، ومنهكة جدًّا؛ كي نتحمل عبوديات جديدة من الذين نحبهم. في النهاية سنموت من الحزن، حرفيًّا. وعلينا أن نعيش، وأن نجد الكلمات والزخم والتفكير والتأمل الذي يؤسس للفرح، الفرح. لكن هكذا أنا صديقك، أحب سعادتك أحب حريتك. مغامرتك في كلمة واحدة، وأود أن أكون لك الصاحب الذي تثق فيه دائمًا.

سأعود في غضون أسبوع. لم أفعل شيئًا خلال هذا الصيف، والذي كنت أعتمد عليه كثيرًا مع ذلك، ولكن هذا العقم، هذه اللاحساسية المفاجئة والمستمرة، تؤثر فيَّ كثيرًا. إن كان لديك الوقت في نهاية الأسبوع المقبل (الخميس أو الجمعة، وقت عودتي)، يمكننا تناول الغداء أو العشاء. ضع كلمة في صندوق بريدي وسنتفق. أفرح من أعماق قلبي، لرؤيتك مرة أخرى.

صديقك ألبير كامو

النورماندي الحزينة! حكيمة، فقيرة وضيعة، وشعرها مسرح بعناية. ثم صيف من الحلزونات. أموت من العطش، محروم من الضوء (مكتوب في الهامش الأيسر من الرسالة).

عند ميشيل غاليمار

في سوريل- موسيل،أور أي لوار

المفكر الفرنسي إدغار موران تحت مجهر «السترات الصفراء»

المفكر الفرنسي إدغار موران تحت مجهر «السترات الصفراء»

ديمة الشكر

منذ شهر نوفمبر الماضي، بدأت حركة «السترات الصفراء» الاحتجاجية في فرنسا، وصارت الشغل الشاغل للمجتمع الفرنسي بكل أطيافه وطبقاته، بل امتد الانشغال بها إلى مستويات عالمية. بدا الأمر كأنما «السترات الصفراء» تشكّل بؤرة مركزة، تعكس مآزق شتى على مختلف المستويات، وإن كان للمستوى الاقتصادي فيها اليد العليا، فإن الأمر عابر للمستويات كلّها. صحيح أن الشرارة التي قدحت الزناد كانت زيادة الضريبة على الوقود التي هدفت إلى محاربة التلوث الناتج عن الوقود الأحفوري، لكنها –الضريبة- استهدفت الطبقة الأفقر، فظهر كما لو أن عبء التلوث البيئي واقع على فئة دون أخرى، وهو ما يعكس تمييزًا سافرًا ويبطن رسائل متعالية في قلب المجتمع الفرنسي، حيث يتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه رئيس الأغنياء.

تلك الشرارة كانت في الواقع ذريعة لاحتجاج أوسع، حيث إن إلغاء الرئيس ماكرون تلك الضريبةَ في شهر ديسمبر المنصرم، لم يؤدِّ إلى نتيجة تذكر. الإجماع على أن «السترات الصفراء» تعكس أزمة عميقة، وتشير إلى كلفة القرارات الاقتصادية الذاهبة باتجاه الليبرالية السافرة، قدح زنادًا آخر: زناد النقاشات والجدالات والتحركيْنِ السياسي والاجتماعي على مختلف الأصعدة؛ ذلك لأن المجتمع الفرنسي ذو نزعة تذمرية متمردة بالأصل، ومن المألوف لزائر باريس رؤية مظاهرات «صغيرة» في شوارع عاصمة الأنوار. إضافة إلى أن فرنسا ما زالت تتمرأى في مرآة ذاتها: بلد الإشعاع الثقافي، وما زالت تمثّل «موطنًا» للفكر والفلسفة، في عالم يزداد عولمة يومًا بعد يوم.

لم تتأخر المقارنات في المنابر الإعلامية كافة بين «السترات الصفراء» و «أيار 1968م» التي كانت باهرة على المستوى الثقافي أيضًا، حيث كان في صفوفها أهل الفكر والفلسفة: جان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وميشيل فوكو، وجيل دولوز، وفرانسوا مورياك، ومارغريت دوراس، وألان باديو، وناتالي ساروت، وأندريه مالرو وغيرهم. وقد وصفت سيمون دو بوفوار شريكةُ سارتر حالَتَه وقتها: «أحداث أيار 1968م التي انخرط فيها والتي مَسَّتْه بعمق، كانت بالنسبة له فرصة لمراجعة جديدة، لقد أحس بتشكك من وجوده كمثقف، ومن ثم اضطر في غضون السنتين اللاحقتين، إلى التساؤل عن دور المثقف وعن تغيير التصور الذي كان لديه عنه».

موقف المثقف الفرنسي

المقارنات التي لم تتأخر أشارت بطرف خفي نحو المثقف الفرنسي اليوم وموقفه من «السترات الصفراء». وفي مجتمع الميديا والاتصال الفوري الذي نعيشه، يكون لتغريدة على «تويتر» مثلًا أثر مماثل لمقال في جريدة عريقة من ناحية إعلان الموقف. لا حواجز ولا رقابة طبعًا والمثقف -أي مثقف- تحت مجهر «السترات الصفراء». بيد أن عدد المواقف المعلنة يعكس التنوع في المجتمع بين داعم للحركة أو مشكك بها ومناوئ لها، مع ذلك يكتسب موقف المفكر والفيلسوف الفرنسي إدغار موران أهمية خاصّة، نظرًا إلى مكانته العالية في مجالات شتى فهو الفيلسوف وعالم الاجتماع والمفكر والناقد والملتزم بالقضايا العادلة، ولكن أيضًا بسبب اشتباكه مع قضايا مجتمعه وعصره الذي لم ينقطع يومًا، ونتذكر في هذا الصدد أمرين على الأقل؛ إطلاقه عام 1979م مفهوم علم الأزمات، والكتاب/ البيان «طريق الأمل» الذي أصدره رفقة صديقه الدبلوماسي والمفكر السياسي والمؤرخ ستيفان هيسيل عام 2011م، (صاحب الكتيب الشهير «اغضبوا») وفيه عالج المفكران الأزمات التي تعصف بالمجتمعات الغربية عامة وفي فرنسا خاصة، ويشيران إلى «الأزمة التي تلوح في الأفق» بوصفها «أزمة حضارة» نتيجة أشكال اختلال التوازن العالمية وواقع إنهاك النموذج الإنتاجي المهيمن. وعلى مرّ الأعوام ونتيجة لدأبه اكتسب موران سمعة رفيعة، فوصف غير مرة بأنه « نادرًا ما كان مخطئًا في تحليلاته».

السياق الذي يوجد فيه موران إذن، يقترح اهتمامًا خاصًّا بموقفه من «السترات الصفراء»، الذي أوضحه في مقال في جريدة «اللوموند» بتاريخ 4 ديسمبر المنصرم.

إدغار موران

من الصحيح أن الجريدة اختارت لمقال موران عنوانًا مغايرًا للعنوان الذي اقترحه هو «النار والرماد»، وانحازت إلى إعلان موقفها من السترات الصفراء عبر التركيز على جملة انتقد فيها موران الحركة؛ إذ عنونت المقال بـ«تفتقر حركة السترات الصفراء إلى الفكر المرشد»، إلا أن ذلك لم يكن السبب في انتقاد كثر لموقف موران، وبخاصة أهل اليسار، وعدّه سقطة مؤسفة لمفكِّر كبير. بدأ موران مقاله بوضع الحركة في سياق الأزمات المتراكمة للمجتمع الفرنسي: «الصفراء (المقصود مرض اليرقان) دلالة على وجود أزمة في الكبد. والسترات الصفراء دليل على أزمة في العقيدة؛ أزمة إيمان بالدولة، والمؤسسات والأحزاب والديمقراطية أي في ما يدعوه الأطراف بالنظام وهم في الوقت نفسه جزء منه… إذ إن اللامبالاة الطويلة حيال مواطنينا بمواجهة العديد من التقييدات والإلغاءات التي يطلق عليها الإصلاحات، قدّمت وهمًا بالقبول أو الخنوع. وبينما كان الحريق يتصاعد مرة أخرى من قبو صرحٍ كان يُعتقد أنه راسخ، جاءت ضريبة الكربون لتخرقه مطلقة عنان الحريق. الطابع العفوي للحركة هو سمتها: «تفتقر حركة السترات الصفراء إلى الفكر المرشد». كان انتشارها عبر شبكات التواصل الاجتماعية قد حقق نجاحًا أوليًّا. فغيرت السترة الصفراء وظيفتها وغدت راية الثورة. لا مسؤول، لا زعيم، لا هيكلية، لا أيديولوجية، وهو الأمر الذي سمح بالجمع بين السخط وخيبات الأمل والإحباطات والغضب المتنوع وغير المتجانس، من المتقاعد إلى المزارع من الجبهة الوطنية، وصولًا إلى شباب المدن المتمردين.

لكن هذه القوة الأولية المبدئية أصبحت عقبة في الوقت الذي كان يجب الإعلان عن برنامج أو التوجه صوب الإصلاحات، لا نحو الإلغاءات الضريبية أو استقالة الرئيس.

تأطير الحركة

إذ من الواضح أن موران يدفع إلى تأطير الحركة إن جاز القول، عبر تنظيمٍ ما يضفي عليها قوة دافعة؛ كي تستطيع الوصول إلى أهدافها المنسجمة إلى حدٍّ بعيد مع أفكار موران نفسه التي عبَّر عنها في غير كتاب ومناسبة. بيد أن المفكر الحصيف والواعي لذرائعية ضريبة الوقود، أراد النفاذ إلى ما هو أشمل، من خلال شدّ الانتباه إلى التلوث البيئي بوصف هذا الأخير خاصّة ناجمًا عن سياسات الحكومة الليبرالية أكثر فأكثر، وما تفعله الشركات الكبرى المسيئة للبيئة من دون أن تتعرض لأي إلغاء أو تقييد، أي من دون أن تتعرض لأي من «الإصلاحات» المزعومة التي لا تصيب إلا الفئة الأقل حظًّا: «الانتباه إلى أن الوعي بأن نفهم أن العقبة الرئيسة ليست في سلطة الرئيس ولا الحكومة إنما في القوة المتعددة الأشكال للربح الذي استعمر هذه السلطة».

نظريًّا لا يمكن إلا الاتفاق مع إدغار موران؛ ذلك أن الآثار السلبية للعولمة بشقّها الاقتصادي ليست سرًّا، ولعل ما تطفح به الأخبار عن تمركز نصف ثروة الكوكب في يد فئة أقل من قليلة خير دليل على ذلك. بيد أن الأمر لا يتعلق بالاتفاق مع موران أو مخالفته، بل قراءة رد الفعل على مقاله المذكور. حيث جاءت أغلب الردود عليه مبتسرة لفحواه ومنتقدة لمنطقه على اعتبار أن المفكر حول الأزمة صوّب المشكلة البيئية، وهو أمر يفتقر إلى الدقة فالقصد كان وضع تلك الضريبة ضمن حجمها؛ إشارة أو دلالة لا القصد والسبب. فقد أوضح موران: «من عجيب المفارقات أن الحركة التي لم تعارض إلا الضريبة المساندة للبيئة من بين كل ما هو أكثر وحشية، وجدت نفسها تعارض بشكل أعمى كل ما يشكل الخلاص: النضال من أجل تجديد المحيط الحيوي، ومكافحة تلوث المدن، وتنشيط الأراضي عبر زراعة عضوية وبيئية. ومع ذلك، يبدو لي أنه لو كانت الحكومة تريد تخريب القضية البيئية، ما كانت لتحقق ذلك بشكل أفضل».

المقالات التي ردت على الفيلسوف تجاهلت فعلًا ما كتبه عن أنها «أزمة حضارة ضخمة وأزمة إنسانية ضخمة تسببها العولمة الجامحة». بل اتُّهِمَ موران بالتهمة نفسها التي تلاحق إيمانويل ماكرون؛ أي بالتعالي على العامة وأنه فوّت على نفسه فرصة تاريخية لأن يكون مفكرًا سياسيًّا. والأمر جدير بالتفكير حقًّا؛ إذ هو يعيد طرح السؤال الذي شغل عقول أهم مفكري القرن العشرين عن المثقف الملتزم ودوره وعلاقته بالسلطة. لكن هذا السؤال الشهير الذي لا يكفّ عن التواتر في مراحل انكفاء العامة عن صنع الحديث، يتعرض لامتحان معناه في كل مرة يبدي فيها المثقف موقفه من حراك أو احتجاج لمّا تظهر مآلاته بعد.