خصوصية التعبير البصري لدى الرسامات العربيات

خصوصية التعبير البصري لدى الرسامات العربيات

لا يعني البحث في خصوصية العمل الفني والتجربة البصرية التشكيلية للمرأة فنانةً، عَزْلَها في التصنيف أو طرح قضية ما يعبّر عنه «الفن النسوي»، بل هو بحث في تميزها الأنثوي من دون فصلها؛ لأن لها تحليلها وموقفها بأساليب التعبير لديها وتفردها فيها، كما أنها ليست مجرد عنصر يتوافق مع المنظومة الأساسية التي تعبّر جماليًّا ولكنها كيان ثقافي، له دوره وحضوره المنافس والحر والقادر على خلق الابتكار، ولها أيضًا اختياراتها وأسلوبها ومستوى إدراكها وعاطفتها وعلاماتها ورمزياتها، ومن ثَمّ فالبحث في عالمها الإبداعي التشكيلي يعبّر عن تناقضات واقع ومجتمع ونفسية وانعكاس ومعايشة وتحدٍّ وإثبات حضور وجدية طرح للمفاهيم.

والبحث عن خصوصيات التعبير الفني للمرأة ليس تصنيفًا اجتماعيًّا؛ لأن الطرح الفني لا يطول المرأة وحدها، بل كل مكونات المجتمع بتفاصيله التي كثيرًا ما تحوم حولها إشكاليات مختلفة واستفسارات بحث تحاول فهم اختلاف التعبير الفني مقصديًّا ودلاليًّا ورمزيًّا، واختلافُه بينها وبين الرجل وكيفية حضورهما في منجز الآخر، ومدى توافقه مع الموقف الفني والقدرة على وصولهما إلى عمق التجلي البحثي لكسر حواجز الاختلاف والتخالف، الصدام والتصادم، بفعله البنّاء في خلق الموقف الجمالي من التجلي الفني، فما خصوصية الفلسفة البصرية التي ترى بها المرأة العربية تعابيرها وعلاماتها في تجربتها التشكيلية الحديثة والمعاصرة؟ وكيف تتعاطى مع الواقع والخيال والعلامة والرمز في مفاهيمها الفنية باختلاف تجاربها وتنوع انتمائها ودرجة استيعابها الثقافي؟

كثيرًا ما تتعامل المرأة مع الصور والتعبير بحساسياتها المفرطة في التوغل الذهني، وكثيرًا ما تدقّق في التفاصيل الواضحة بعلامات عميقة البحث تجيد التعتيم المقصود منه التعمق أو استدراج المتلقي لعوالمها ومحاولة قراءتها، مثل التعبير الكثيف الذي تخوضه المصرية الرائدة زينب السجيني، أو الكويتية ثريا البقصمي، أو السعودية منيرة موصلي، أو التونسية يمينة المثلوثي، وهن يستثرن العلامة التراثية في عمق التعبير الأنثوي، ويستخرجن الدلالة الموقعة بالفلسفة البصرية التي تعبر عما تسعى المرأة إلى تحقيقه بصريًّا والتعبير عنه. وعلى الرغم من أن الاختلاف في الرأي جاهز سواء في أن المرأة تتميّز -أو تتشابه- عن منجز الرجل التشكيلي، فإن التصور في حد ذاته لا يتوقف عند هذه النقطة الجدلية وحدها؛ لأنه يتعمّق في التحليل النقدي البصري لكل تجربة بمختلف جمالياتها وثيماتها.

ثريا البقصمي

الجماليات وفلسفة الرؤية

إن فكرة الاختلاف والتنافس والتميز والتفرد قد توقع البحث عن الخصوصية الفنية في مراتب التصنيف الواقعي، غير أن المحرّك الأساسي الداعي لتمييز العمل والمنجز الفني هنا هي الجماليات وفلسفة الرؤية التي تحلّل بصريًّا، خصوصًا أن المرأة تدقّق في التفصيل والسرد والتفتيت والمبالغة والحدة والسخرية والبحث في كوامن الشخصية العاطفية والنفسية، مثل تجربة الكويتية مشاعل فيصل، فهي تركّز على الملامح المألوفة في المجتمع وتعالج نفسياتها وواقعها بلغة جمالية مشوهة الملامح تكاد تشبه الكاريكاتير ولكن في تراتبية وتدريج لوني وشكلي، فكائناتها كما تعبّر عنها تعكس المجتمع وتحاول أن تنفلت في الفكرة نحو كشف طبيعة العلاقة في حالاتها ومزاجها في فرحها وحزنها، بتكبير الأعين وتكرار الرأس وتدريج الألوان التي تبعث في المنجز حركة وحيوية.

وعلى الرغم من أننا في كثير من الأحيان نكاد لا نميّز بين عمل لرجل أو لامرأة، فإن قواعد التعامل مع منجز فني تقدّمه المرأة يخضعها لقواعد مبنية على النضج والتكافؤ، الندية والتميّز، ومن ثَمّ إصرار ذاتي على إحداث الفرق في التصور الجمالي. وهنا نلحظ أن أعمال المرأة يميّزها التريث والحكمة في الخطوط والأشكال، في اختيار الموضوعات وترتيب الفكرة، حتى في الإشارة العامة بالتخصيص، مثل تجربة ليلى كبة ومدى توظيفها الأسطورة والتاريخ ومقارنتها مع حضور المرأة العراقية، أو تجربة سمر غطاس في التماهي الواقعي بين الفكرة والحلم في الواقع الفلسطيني، وتماهي الطموح الفردي مع الرغبة الجماعية من خلال مزج الصورة الفوتوغرافية واللوحة الفنية، أو تجربة النحت والحفر لميرفت عيسى، باشتغالها على الفكرة المقاومة لواقع المرأة الفلسطينية المهجّرة، وكذلك تجربة السعودية إيمان الجبرين في فكرة الهوية وتناقضات الكشف والتحفظ، بين ما يريده الآخر وما تريده هي نفسها بكل حرية وانتماء فعل.

ففي المنجز عامة لا تقدّم المرأة موضوعاتها المطروحة ومفاهيمها المبتكرة بشكلها الجاف أو العابر لإثارة التعاطف والشفقة، بل تتعمق في مفاهيمها تعمقًا غير مباشر تفرضه طبيعتها الجادة والدقيقة، وهذا لا يعني اسنتقاصًا من دور الرجل الفنان وتجربته، ولكنّ تثبيتًا لتأثيره وتأثر المرأة بأسلوبه وتفاعلاته، ودمج عواطفها وخصوصيتها معه ومع الطبيعة والثقافة والانتماء والمعارف. فهي المستفيد من التوافق والتكافؤ والمنافسة، ويجب عليها بقدرتها البحثية أن تروّض أسلوبها ترويضًا أعمق، حتى تتمكّن من التميّز العالمي أكثر وأبعد من ناحية الاطلاع والتطلع، فلا يمكن تناول بحث جمالي للمرأة بمعزل عن منجز فني رجالي في مجتمع واحد بعناصره البنائية وواقعه الاجتماعي.

زينب السجيني

المرأة: حضور الموروث والانتماء

إن القيمة الأساسية للمنجز الجمالي للمرأة تحيل على تفاصيل الحنين وانتماء الذات وحضور الأنوثة ورغباتها، إضافة إلى ألوان الترقب والانتظار والقلق والحيرة والتمرّد والرضوخ والحب والانتقام والتحدي. وعلى الرغم من أن الرجل يرى في المرأة الأرض والحبيبة والأم والوطن والحلم والطموح والقضية والفوضى والانعتاق والأمل، والحياة بقوتها وضعفها وبتناقضاتها الحسية، فإن المرأة ترى في الرجل تعابير الرومانسية واكتشافات الأنوثة والتوافق الطبيعي في علاقتهما، وفي الوقت نفسه ترى فيه السلطة والتحكم والرقابة والتسلط والتحريم والغموض والخوف. وهي تناقضات لم يصنعها الاختلاف بل هي مَنْ صنعَته مِن واقع مختلف ومتفاوت في ثقافاته وموروثه وعاداته وتقاليده ودرجاته الذكورية، وهي من عزلته في زوايا التمييز الاجتماعي. وهذه التصورات الفكرية والاجتماعية والنفسية الوجودية كثّفتها بصريًّا التشكيلية الكويتية مها المنصور، في علاقاتها الرمزية وسريالية التفتيت البصري لفكرة الانتظار والترقب وحيرة التأمل وخوف الاندفاع وتردد التقدم كعناصر توظّف معها العلامات الرمزية، مثل المقص والأرقام والساعات وصورة الظلال التي تحيل على وجود الرجل في زوايا كل تعبير وفكرة.

الجسد وقيمة العلامات الجمالية

إن الاختلاف واضح في الرمزية والإنجاز والتوجيه الأسلوبي للفكرة وتوظيفات الجسد والعلامة بين تجربة وأخرى نسائية، حسب الانتماء والعلاقة والتعامل مع الطبيعة والأرض والحضارة والحضور، فمثلًا العلامة الخاصة في «البرقع» في تجربة التشكيليات في الخليج العربي تختلف حسب توظيفاتها. في الإمارات تتقارب في مفهومها الدلالي كموروث يعكس الواقع والانتماء وارتباط التراث بالعادات والتقاليد، ويمكن أن يحيل على الحضور والتغييب حسب المفهوم وطبيعة الأسلوب كالتعبيرية والواقعية أو المفاهيمية، فهي كرمزية فنية تختلف بل تتجاوز التعاطي المفاهيمي في الفكرة والمعنى والمقصد، فتتحوّل من العاطفة الذهنية إلى الذهنية العاطفية، ومن ثَمّ تتغير وتختلف طبيعة استقبالها للمقصد الجمالي والفهمي للرمز وكيفية رؤيته، وقد تتجاوز العاطفة الذهنية حضورها المتفاوت في التجربة التشكيلية السعودية مثلًا، ففي تجربة التشكيلية فاطمة النمر تختلف الفلسفة البصرية تمامًا في توظيفات التراث والانتماء الخاص بثنائية الأرض والمرأة والتراث والهوية لتصنع منها عوالمها، فنساؤها بحضورهن يعكسن ذاتية وتفرّدًا جماليَّ الفكرةِ يتجاوز الخطوط والألوان والتقوقع، فهي تبحث عن الجمال في تصوراتها وأساليبه ومستوى التجريب في أعمالها، التي طوّرت فكرة البحث الأيقوني للمرأة بمميزاتها الإنسانية.

وعلى الرغم من أن فكرة الجسد المادية وتوظيفاتها التشكيلية كثيرًا ما تتراءى إيروتيكية التوظيفات، وموجّهة نحو أفق تمردي، فإن التوظيف النسائي لجسد المرأة كثيرًا ما يتجاوز التسطيح المألوف للفكرة، فالمرأة تحاول إضفاء روح من الإحساس والانعتاق الحر، كما نجد في تجارب فنية معاصرة مثل تجربة العراقية هيف كهرمان التي توظّف الجسد لطرح علاقات المجتمع بالمرأة، ونقد السلطة الخاصة بالمجتمع التي لا يفرضها الرجل بل تفرضها المرأة نفسها، فهي تُظهر نساءها بكل الأمزجة والحالات المغرية والحالمة والمخادعة والطائعة والمتمرّدة والساكنة.

إن الإضافة الجمالية التي حقّقتها المرأة في الفن لم تقتصر على محاكاتها لذاتها، ولا تقوقعها في نقطة التفريق والتمييز والتصنيف، بل في فهمها العميق لواقعها وطموحها ونجاحها وتطوّر تجربتها التشكيلية والبصرية، فلم تقف على الحدود بينها وبين الرجل، بل حاولت ابتكار مساراتها من خلال التجريب والتقليد والسطحية والعمق، في الفكرة والعاطفة، في الحضور والتماهي، في الاختفاء والتجلي؛ لتعبّر ولتكون باختلاف أساليبها ومستوياتها الفنية.

المتفككون.. الحلقة المغيبة من تاريخ الفنون التشكيلية المعاصرة أفكارهم سرقها الدادائيون والسرياليون واتسمت بالجنون والنقد اللاذع للمجتمع

المتفككون.. الحلقة المغيبة من تاريخ الفنون التشكيلية المعاصرة

أفكارهم سرقها الدادائيون والسرياليون واتسمت بالجنون والنقد اللاذع للمجتمع

البحث في تاريخ الفن التشكيلي المعاصر والتوغل في مسارات ما بعد الحداثة، زاخر بالمفاجآت والتنوع والاكتشافات الجديدة، فالمذكور أن الدادا هي حركة التمرد الفني الأولى المعلنة والمعروفة التي غيرت مفهوم التعبير الفني الحديث وتحولت به من الكلاسيكية المحددة التوجهات إلى التعبير المطلق والعبثي والخارق لكل الأفق الجمالي، سواء من خلال اللغة البصرية أو التذوق الفني وفكرة التقبل الجمالي، كما بدا في أعمال مارسيل دوشامب أو الحركات المختلفة مثل الفوميزم.

غير أن الغوص في البحث عن تاريخ ظهور التمرد الفني وملامح الفن المعاصر يأخذنا إلى أكثر من عشر سنوات مخفية من تاريخ الفن في القرن التاسع عشر، حققت ضجة كبرى ولكن غُيّبت عن التأريخ وهي صفحة «المتفككين» التي بدأت سنة 1882م وانتهت بل اختفت تمامًا سنة 1893م. فالمراجع التي تحدثت عنهم أو ذكرتهم تكاد تُختصر في بعض البحوث أو المقالات الفنية التي تذكرهم لكن من دون الغوص في عمقهم الفني. ويعدُّ بحث الكاتبة الفرنسية «كاثرين شاربان» من البحوث الجدية التي ألقت الضوء عليهم، وتبقى الدراسة الأكثر تميزًا التي توغلت فيهم كفنانين بتفاصيلهم وعوالمهم بل مقارنة بين أعمالهم التي سبقت عصرها وأعمال عالمية اقتبست منهم أو حتى استولي عليها، كتاب الدكتور حسين حسين الفنان التشكيلي والباحث اللبناني الذي عالج تاريخ الفن الحديث من خلال حقبة المتفككين الذي استعنا بكتابه كمرجع معمّق للحديث عن هؤلاء المبدعين الذين اتخذوا الفن تسلية لكنهم من دون أن يشعروا أسسوا لبداية فكرة الفن الاعتراضي والمتمرد على السائد ولتيار فني معاصر بصدى أعمالهم الباقي والحاضر حتى عصرنا الحالي.

وللحديث عنهم لا بد أن نشير إلى المراحل المختلفة للفن التشكيلي والفنون البصرية والتطور التعبيري في الفن. فلم يعبُر الفنانون التشكيليون من المراحل الكلاسيكية إلى المعاصرة من دون وعي ونضج ومواكبة واندماج مع الواقع ودرجات الخيال وحالات التفاعل معها فمن عصر النهضة ومرحلة المستشرقين وعصر التنوير والثورة الصناعية والحروب العالمية، كان الفنان والمثقف عنصرين عالجا وعبّرا وبلورا أحاسيسهما من خلال تلك الرؤى الإبداعية المخزنة في مراياهما التي عكساها على فنهما، فقد بدأ الفن الحديث مع الانطباعية وتأثيرها في اللوحة الكلاسيكية. وفي سنة 1910م أحدث تيار التجريد ضجة وتأثيرًا ليتمادى الابتكار والتمرد مع الدادائيين سنة 1916م؛ إذ شكّلت هذه الحركة نقطة انحراف في التعبير الفني ومفاهيمه الإدراكية لعنصر الجمال ولدور العمل الفني كله وعلاقته بالفرد والمجموعة، فقد أصبح للعمل الفني المنجز وظيفة تتفاعل مع الواقع وتعبر وتنقد وتسخر من السائد ومن القوالب الجامدة ومن الوصايا الكلاسيكية على الفن ومن دوره الباهت الموظَّف زينةً أو ديكورًا ودوره الذي يقيد الفنان بالفكرة والخامة والعنصر. فقد خاضت الدادائية التجريب باختلاف وجرأة بالخامة غير المألوفة، ثم تطورت مع السريالية، ليكتسب التجديد تفاعلًا شعبيًّا بالحضور التقني مع البوب آرت والديجيتال والمفاهيمية والتركيبية والتنصيبية والدادائية الحديثة وأحادية اللون والفيديو والصورة كل هذا التطور مذكور في كتب تاريخ الفنون الحديثة والمعاصرة التي اتفقت على أن تتجاوز مرحلة دقيقة من تاريخ الفن هي مرحلة المتفككين التي كان لها الفضل في خلق عنصر التجديد وجرأة التجريب وعنصر السخرية والتمرد، وهي المرحلة التي فتحت الباب أمام الدادائية وسبقتها بحوالي 40 سنة.

الجماعة غير المتماسكة

فمن هم المتفككون وكيف ظهروا ولماذا تجاوزهم تاريخ الفن التشكيلي وتعمّد إقصاء صفة الفنانين منهم؟ إن مرحلة المتفككين هي مرحلة حساسة من تاريخ فرنسا وأوربا مرحلة النهضة والوعي. فقد بدأت عروضهم على سبيل التسلية والمرح والسخرية من فراغ السياسة والتفكك القائم على الطبقية والسعي لبناء مجتمع ناقد وقادر على اكتساب عناصر التعبير الحضاري، فقد قررت جماعة من محبي الفن في باريس أن تجتمع في كل أسبوع وتقدم أفكارها التي اتسمت بالجنون والتسلية والسخرية والكوميديا والنقد اللاذع للمجتمع والفن والواقع، وأن تخترق الحدود وتكسر القوالب بالتعبير الفني. فقد ابتكروا من جنونهم تجارب غير معقولة وأفكارًا رائدة استغلت الفضاءات التي عرضت فيها، فلم تعجزهم أي معوقات عن التجريب والابتكار والجمع بين الفكرة أدبًا والرسم واللوحة والأداء والعلم كهرباء شموع وكل الآلات والأدوات سخرت للعرض والفرجة لتؤدي معنى وتستدرج لفكرة، فلم يحبطهم عن التعبير أي شيء فقد قدموا ما يسمى حاليًّا فنون الأداء والفن متعدد الوسائط والفن المفاهيمي والتركيب والكولاج.

إن مرحلة المتفككين أو كما تسمى أيضًا الجماعة غير المتماسكة أو الطبيعيين أو الهامشيين ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر لتكون نتاج ابتكار وانعكاس نهضة صناعية واجتماعية، وبخاصة أن هذا العصر اعتبر عصر تطور وتمرد على كل كلاسيكي برؤى التغيير السياسية ومرحلة حرية التعبير والنقد، وما عرف بالكوميديا المشوهة التي تحوّلت بمفهوم الجمالية وفكرة الجمال إلى نقاط مختلفة لامست القبح ومنحته مشاهد غاصت في ماورائيات المعنى فيه، تلك التي قد تحيل على الجمال. هذه المرحلة من التاريخ الفرنسي بنيت على مبادئ الجمهورية الفرنسية الثالثة التي ارتكزت على الحريات الفردية والجماعية ومنح حق الاجتماع والتعبير التي أسس قواعدها «مونتيسكيو»، والتي تبعتها تطورات فكرية وتمرد تعبيري مكثف ومتداخل المعاني لامس الآداب والفنون والفلسفة والقانون.

فظهرت حركات فنية جديدة هي البوهيميين واللامبالين والفوميزم الذين انضووا واجتمعوا معًا في مجموعة سميت «المتفككين» من أجل كسر قواعد الفن الصارمة تلك التي تمنعهم من ممارسته، باعتبار أنهم لا يمتلكون أسس تلك القواعد فقد فكر المتفككون أن يعبروا عن حبهم للفن بجنونهم وبعيدًا من الالتزام بقواعده. وقد ظهرت مجموعة المتفككين على يد «جول ليفي» عضو سابق في نادي «هيدروباث» الأدبي بعد أن قرر تنظيم معرض فني خيري يسمح فيه لمحبي الفن بعرض كل ما يجول بخواطرهم وكانت تلك البادرة أول خطوة لتأسيس المجموعة. في 19 يوليو 1882م ظهرت جمعية المتفككين التي فتحت أبوابها لكل الفضوليين والهواة لعروض فرجوية مبنية على التنشيط والتفاعل.

وقد صادف عند افتتاح العرض أن انقطع التيار الكهربائي الذي لم يمنعهم من إكمال عرضهم ولكن على ضوء الشموع حيث تنقلوا في المكان بين العتمة والنور ليشاهدوا الأعمال ويسمعوا النصوص الأدبية والقصائد والموسيقا، فكانت تلك الفرجة اللامتوقعة عنصرًا جريئًا في العرض أسس لفلسفة التوظيف والابتكار وتسخير الخامة لتغيير الرؤية الجمالية لوظيفة الفن. في 2 أكتوبر 1882م، قرر «جول ليفي» تكرار العرض الفني في بيته مع إضفاء طابع الغرابة والبوهيمية واللاتماسك في التعبير حيث شارك في تلك الأمسية أكثر من 2000 شخص وكان ذلك النجاح غير متوقع مع تغطية صحافية رسخت فكرة الفنون المتفككة في المشهد الثقافي الباريسي. في أكتوبر 1883م كانت البدايات الجميلة التي اكتسحت فضاء الفنون حين اكتشف الباريسيون أول معرض رسمي خيري للفنون غير المتماسكة في «صالون فيفيان» حيث قدمت الأعمال بكل خطواتها الساذجة والفوضوية والساخرة وفق الأداء والعرض كما قدمت الابتسامة وقد سجل المعرض 20 ألف زائر خلال شهر واحد.

وبعد ذلك بعام، عاد المتسابقون بشغف للمشاركة من خلال غاليري فيفيان بأفكارهم الفوضوية والساخرة في رسومات ومنحوتات وتصاميم وقصائد وأداء متناقض ساخر وناقد يبعد الناس من الكآبة ويخلق أفقًا للأمل والابتسام. وفي كل عرض تقوم به جمعية المتفككين كان يحظى بتغطية إعلامية مكثفة وحماسية وفضولية تنتظر بشغف كل جديد، ولعل أرشيف الجرائد الفرنسية بقي الشاهد الوحيد على تلك المرحلة وبخاصة أن المقالات كانت ترفق بصور للأعمال الفنية. فالعروض كانت تحاول تجاوز التعتيم لتظهر من خلال فنون الأداء والتجسيد والإلقاء والرقص والمسرح وتعدد الوسائط وبخاصة أن العروض كانت تحمل فرجة رغم الفوضى واللاتناسق والتفكك والانفصال الذي حمل في حد ذاته قواعد جديدة وأفقًا موسعًا للفن التشكيلي المعاصر.

تراجع وانتقاد

غير أن هذا التيار عرف في سنة 1886م تراجعًا وانتقادًا من المنتمين للفنون الكلاسيكية، فككل تيار يلاقي النجاح والتواصل الفرجوي الذي يكاد يصبح قاعدة فنية تهدد الكلاسيكي. لاقى النقد كشكل فني لاعتبارات عدة أنه قد يهدد الفن والذوق وقد هوجم «ليفي» المؤسس وأصبحت الجمعية تعاني التفكك الداخلي بين أعضائها لتنتهي المرحلة وينتهي عصر المتفككين سنة 1893م.

إن هذه المرحلة لم تكن عبثية الوجود بل أسست لفكر جديد وبخاصة أنها جمعت أسماء أدبية فنية مسرحيين وكوميديين نذكر منهم: هنري بييل، أنطونيو دي لا غاندارا، تولوز لوتريك، كاران دي أش، ألفونس أليس، بول بيلهود، غيوم ليفيت، تشارلز كليرفيل، بيرتول غريفيل، تشارلز كروس. إن المتأمل فيما بقي وسُجل من أعمال المتفككين من خلال أرشيف الجرائد القديمة وما قدمته جامعات الفنون من بعض الأعمال، والمجهود القدير الذي قام به الدكتور حسين حسين الذي رمم وجسد قرابة 60 عملًا من أعمال المتفككين وقارن بينها وبين أعمال أخرى يثبت أنهم تميزوا بالطرافة الفنية والحضور المتماسك للفكرة المبتكرة والموهبة المتفوقة، القادرة على لفت الانتباه واستثارة الحواس، والأعمق أنهم كانوا طليعة الفن المعاصر ورواده ومؤسسيه. فرغم اتهام النقاد لهم بالتطفل على الفن وبأن أعمالهم مجرد هراء أثبت التأثر بهم والاقتباس منهم في مراحل لاحقة عمق أعمالهم.

ولا يمكن غض الطرف عما تعرضت له هذه الأعمال من انتحال وصل حد السرقات، فكاتالوجات العروض الثلاثة التي قاموا بها بينت أن الأعمال التي وظفوها لعروضهم أخذها الدادائيون والسرياليون ونسبوها لأنفسهم مثل التركيبية والتفوقية وأحادية اللون والأعمال الجاهزة والفرجة والسخرية واللامعقول كما في بعض أعمال مارسيل دوشامب ومان راي وبيكابيا، فأغلب الأعمال كانت نسخًا مطابقة للأصل. فالعروض الأولى للسرياليين حملت عنصر الفرجة كما في العرض الأول للمتفككين؛ إذ تغيرت فكرة العرض على ضوء الشموع إلى المصابيح، فبعض أعمال «إيف كلاين» المعاصرة هي في الأصل أعمال للمتفككين عرضت كما هي من دون ذكر أو اقتباس أو تصور. ولعل التساؤل الذي يستفز هو إذا كان المتفككون فوضويين ومتطفلين على الفن، فلماذا تؤخذ أعمالهم، ولماذا يعتم على كل أفكارهم ولا تذكر مرحلتهم كمرحلة مهمة من تاريخ الفنون البصرية والتشكيلية المعاصرة؟