«مؤتمر النقد السينمائي» يصنع حراكًا ثقافيًّا غير مسبوق حول السينما وثقافتها

«مؤتمر النقد السينمائي» يصنع حراكًا ثقافيًّا غير مسبوق حول السينما وثقافتها

«أصحاب السينما. أصحاب المعالي والسعادة»، بهذه الجملة استهل رئيس هيئة الأفلام المهندس عبدالله آل عياف كلمته في افتتاح مؤتمر النقد السينمائي الأول، الذي عقد في المدة من 9- 14 في قصر الثقافة بالرياض، تحت عنوان «ما وراء الإطار». ولعل هذه الجملة الاستهلالية، بقدر ما تنم عن تقدير عال لصناع السينما، بقدر ما تؤكد الأولوية التي باتت السينما تحتلها في نفوس السعوديين، متلقين أو مساهمين في صناعتها. كما تعكس الدعم والاهتمام الرسمي بهذا الفن الذي يعد من بين الفنون الأكثر جاذبية، والذي بات يتخطى مسألة المتعة والشغف وأحد ملامح جودة الحياة، إلى كونه مصدر دخل ورافد اقتصادي مستقبلي مهم، بالنظر إلى ما تحقق من مبيعات للتذاكر في صالات السينما، قارب الخمسة والأربعين مليون تذكرة في خمس سنوات، بحسب كلمة آل عياف، التي تطرق فيها إلى أن الفِلم السعودي بات منافسًا قويًّا في السوق المحلية، وربما في السوق العربية عما قريب.

من ناحية، يمكن القول بمقدار كبير من الثقة: إن مؤتمر النقد السينمائي حقق نجاحًا لافتًا، سواء على صعيد تنوع أنشطته وخروج بعضها على السينما كمفهوم مستقر، إلى صيغ أخرى من السرد الفِلمي أقرب إلى المفاهيمية، أو على مستوى المشاركين والضيوف الذين ينتمون إلى بلدان كثيرة، عربية وأجنبية، ويغطون اهتمامات متنوعة بصناعة السينما، إضافة إلى التفاعل الحيوي من الحضور، الذي شهدته العديد من الأنشطة التي توزعت على قاعات عديدة. كل ذلك، عبر عن احتياج حقيقي لمؤتمر للنقد السينمائي، احتياج عربي بصورة عامة، وليس سعوديًّا فحسب. إذن، أحدث المؤتمر حراكًا نقديًّا غير مسبوق، وهو يجمع في فعالياته، التي تنطلق يوميًّا قبيل منتصف الظهر إلى وقت متأخر من الليل، عددًا من أبرز النقاد السعوديين والعرب والأجانب، ويجذب شرائح مختلفة من المهتمين.

وكان لتلك النقاشات الجانبية، على هامش أنشطة المؤتمر، أهمية كبيرة لا تقل عن تلك التي تتحلى بها الندوات المدرجة في لائحة البرنامج، وهي تشمل مختلف قضايا الفِلم وصناعته في العالم، متطرقة إلى هموم السينمائيين السعوديين والعرب على اختلاف أعمارهم ومشاغلهم. ولفتت مداخلات بعض المهتمين بالسينما وثقافتها من الشباب السعودي، من غير المعروفين في المشهد السينمائي، أنظار النقاد والمتخصصين، بما انطوت عليه تلك المداخلات من ذكاء نوعي وثقافة جيدة واختيار زوايا غير مطروقة كثيرًا، في التعبير عن رؤاهم حيال ما عرض من أفلام أو نقاش حولها. وهو ما عده بعض المهتمين، إحدى إيجابيات مؤتمر النقد السينمائي.

في كلمته عبر المدير التنفيذي للمؤتمر محمد الظاهري، عن الهواجس التي كانت تنتاب كل سعودي ومقيم في تلك الحقبة التي كان البحث فيها عن الأفلام، يعد نشاطًا مريبًا؛ إذ لا بد من التخفي لتستطيع الحصول على فِلمك المفضل. الظاهري وهو يتحدث عن تجربته الشخصية مع السينما، وكيف كان يواجه تحديات المنع، أعاد إلى الأذهان تلك الحقبة المظلمة التي طالها منع كل شيء جمالي وفني تقريبًا.

تعزيز المشاركة الوطنية والدولية

استهدفت هيئة الأفلام من خلال المؤتمر تعزيز صناعة الأفلام السعودية وتسهيل الفرص وتوفير القدرات لخدمة صناع الأفلام وتحقيق الاحترافية على مستوى الإنتاج، وجمع المتخصصين والمهتمين في مجال النقد السينمائي وتعزيز المشاركة الوطنية والإقليمية والدولية في الحوارات المتعلقة بهذه الصناعة. كما تهدف إلى دعم جهود المنظومة الثقافية الوطنية في تعزيز مكانة المملكة العربية السعودية الفكرية على الصعيد العالمي. وتمكين مجتمع النقاد السينمائيين الناشئ من عرض نشاطهم الفكري وتوفير فرص الاحتكاك والتفاعل مع خبرات عالمية. وترسيخ مفهوم النقد/التحليل السينمائي خاصةً، والفني/الثقافي/الفكري عامًة، وهو ما يساهم في تقبل الجمهور المتخصص والعام لهذه الممارسات المهمة في فضاء الأفلام الوطني. وخلق منصة سنوية فعالة لإثراء حقل النقد السينمائي وتنميته بشكل واسع ومستديم، مع جعله نقطة تواصل سلسة بين المتخصصين السعوديين والدوليين.

في المؤتمر حضر عدد من اللغات الأجنبية، ومع ذلك كانت الترجمة إلى العربية أو منها متوافرة بسهولة، وكان من اللافت أيضًا وجود عدد من المترجمين السعوديين، من الجنسين، بلغة الإشارة. كل ذلك ساعد على نجاح الأنشطة ووصولها إلى أكبر شريحة من المتلقين. وتضمنت أنشطة المؤتمر برامج خاصة بالطفل والعائلة، شهدت عددًا من ورش العمل التدريبية، في قالب ترفيهي، لها علاقة بالسينما وطريقة تلقي الفِلم. وسبقت هذا المؤتمر خمسة ملتقيات توزعت على عدد من المدن السعودية، تبادل فيها المتخصصون والمهتمون بالنقد السينمائي الخبرات والاطلاع على الجديد في النقد ومفاهيمه، سعيًا إلى تعزيز الثقافة السينمائية سعوديًّا، ووصولًا إلى تمكين المواهب السعودية في هذا المجال.

بين النقد السينمائي وصناعة الأفلام

احتفى المؤتمر بالمخرج المصري يسري نصر الله، وعرض له فِلم «صبيان وبنات»، في حفلة الافتتاح، ثم مناقشة حول الفِلم وأفلامه الأخرى. وتحدث يسري في كلمته، التي ألقاها في حفلة الافتتاح، عن مسيرته السينمائية التي بدأت بفهم السينما من خلال النقد. فهو، كما يذكر، نشأ في الستينيات، وتعرف من خلال قراءته إلى الأفلام المهمة، وتخيلها في ذهنه قبل سنوات من تمكنه من مشاهدتها فعليًّا. وأمست الكتابة النقدية عن الأفلام طريقته، كما يقول، في تحديد ما كان يتوق إلى مشاهدته في السينما، وما يتوق إلى تحقيقه بصفته مخرجًا، وقال: إن قراءته لنقاد ومبدعين مثل سمير فريد ورأفت الميهي وسيرج ديني وفرانسوا تروفو وجان لوك غودار ومارغريت دوراس وديفيد روبنسون؛ مكنته من خوض نقاشات عن جماليات السينما، وهو ما مكّنه من تقديم أحكامه الفنية والنقدية الخاصة.

أفلام وندوات وتحليلات نقدية

ومن الأفلام التي عرضت في المؤتمر، فِلم «إي أو» وتلاه تحليل نقدي لكل من الناقد العماني ثابت خميس والناقد العراقي قيس قاسم، وقدم ثابت خميس تحليلًا مختلفًا لفِلم EO «إي أو» باستخدام منهجية الظواهر التي تعتمد على دراسة الظواهر المتبدية في الفِلم، ويكشف عن العمليات الإدراكية والتجسيد التعبيري والإدراكي في الفرجة السينمائية. يقدم لنا فِلم «إي أو» لجيرزي سكوليموفسكي، كما يقول ثابت خميس، فيضًا من العوامل التي تؤجج لهيب التأملات، «ولأن بطل الفِلم هو (حمار)، تسلط هذه المنهجية ضوْءَها على ظواهر الوسيط التي أنسنت الحيوان ليعبر عن الوضع البشري، وهو جوهر العمل الفني». أما قيس قاسم فقدم تحليلًا للفِلم إضافة إلى فِلْمِ أقدار بالتازار، للفرنسي روبرت بريسون، ويشير إلى تميز الفِلمين باشتراكهما «في معالجة متقاربة لمنجز سينمائي يأخذ الحيوان دورًا رئيسًا فيه، ومن خلال ذلك، يتم كشف نظرة كل من المخرجين للعالم وتقديمه من خلال نظرة الحيوان (الحمار)، ما يضفي غرابة على المعالجة السينمائية وتجديدًا في أشكال تناول الموضوعات الجدية، التي تهتم بدراسة الوجود البشري».

من الأفلام التي عرضت ولاقت صدًى جيدًا في أوساط الحضور، فِلم «كتاب الصورة» وهو وثائقي من إخراج الفرنسي جان لوك غودار، الذي يجمع فيه قطعًا ومقاطعَ من بعض أعظم أفلام الماضي «ويقوم بتحويلها رقميًّا وتبييضها وغسلها ليقدم فهمًا موسوعيًّا للسينما وتاريخها. يتأمل الفِلم أيضًا مفهوم الزمان والمكان وموقع المعنى، ولكن يركز بشكل أكبر على الصورة نفسها، الهوس الذي يعتمد عليه الفِلم. يستكشف الفِلم أيضًا موضوع الإرث الرهيب للقرن الماضي، بما في ذلك أحداث هيروشيما وأوشفيتز التي تزامنت مع تاريخ السينما، لكنها لا تزال صعبة الفهم بطريقة أو بأخرى. كما يستعرض الفِلم استشراق الثقافة العربية والعالم العربي بشكل مؤثر، وهذا يضع الفِلم في سياق القرن الحالي إلى حد كبير».

أيضًا من الأفلام التي عرضت وصاحبها تحليل نقدي فِلْم «الطيور» لألفريد هيتشكوك. حلّله كل من الناقد السعودي فراس الماضي، والناقدة الأردنية رانيا حداد. وركز الماضي في تحليله لفِلم «الطيور 1963»: على منهجية تصميم الصوت، كاشفًا عن التأثير الدقيق والقوي الذي يفرضه الصوت في العقل الباطن لدى المشاهدين. وحاولت الناقدة حداد «مقاربة خفايا أحد المقاطع المتسلسلة في الفِلْم والمتعلق بمهاجمة الطيور للأطفال في المدرسة، الذي أصبح أحد المقاطع المتسلسلة الأيقونية في تاريخ السينما ومن أكثر المشاهد رعبًا في زمنه، من خلال تحليل بنيته الداخلية، وعلاقة العناصر السينمائية المختلفة بعضها ببعض (من حجم اللقطات وحركة الكاميرا، زوايا التصوير، المونتاج والصوت…)، وكيف وُظِّفَتْ على نحو قادر على خلق الشعور المطلوب من الرعب والتشويق داخل المشاهد».

ومن الأنشطة التي شهدها المؤتمر واحدة بعنوان «السينما السعودية: التأثير الثقافي في ظل العولمة» للباحثة السعودية والمخرجة هياء الحسين، ذكرت فيه أن صناع الأفلام في المشهد السينمائي السعودي، غالبًا ما يواجهون صعوبات في إيجاد هوية خاصة بـ«معزل عن التأثير الخارجي والعالمي، خاصة السينما الغربية»، متطرقة إلى التحديات التي تواجه صانعي السينما السعوديين في أثناء عملهم على تأسيس صناعة تعكس الهوية الوطنية السعودية وتحتل مكانة بارزة على المسرح العالمي.

أما الناقد الدكتور سعد البازعي، فتناول في محاضرة عنوانها: «تجاوز الوهم بين الرواية والسينما: قراءة في الاختلاف الثقافي»، مفهوم «الميتافكشن» أو «الميتاسينما»، «الذي يعني عمليًّا تجاوز حاجز الوهم، وهي ظاهرة معروفة في الرواية والسينما ضمن فنون أخرى. ففي الرواية يتدخل الكاتب في عمله أو تتحدث الشخصيات عن كونها شخصيات، وفي السينما يحدث ذلك حين يظهر المخرج على الشاشة أو تتحدث شخصية عن كونها مجرد شخصية. تلك الظاهرة التي عرفتها الرواية منذ دون كيخوته واستمرت حتى يومنا هذا، هي نفسها التي عرفتها الأفلام في أعمال تمتد من هيتشكوك إلى كيروستامي وودي ألن». وتوقف البازعي عند رواية لطالب الرفاعي بعنوان سمر كلمات« ورواية «حب في السعودية» لإبراهيم بادي، وأفلام للتونسي النوري بوزيد وودي ألن وغيرهما. ويلفت إلى أن الأطروحة الأساسية أن هذا التكنيك السردي والسينمائي، «يتبنى أهدافًا مختلفة في السياقين العربي والغربي، بحيث يتضح الاختلاف الثقافي في الحالتين».

«من رؤى استعمارية إلى جغرافيا جديدة للسينما»، من خلال هذا العنوان تتبع أستاذ السينما في جامعة كاليفورنيا، بيتر ليميرك، بعض الطرق التي يمكن لتاريخ السينما أن يتحدى بها الرؤى الاستعمارية السابقة وتراث ما بعد الاستعمار الحالي. «لتجاوز هذه الهياكل، علينا أولًا أن نتوقف عن النظر فقط إلى الفِلم نفسه، وننتبه بدلًا من ذلك إلى اللقاءات التي أنتجته وغلفته، والتي يتضمن بعضها شبكات من الأشخاص والعلاقات خارج الدوائر الإبداعية المعتادة».

وحاضر سيد حيدر عن استخدامات الدين في السينما الهندية لتعزيز التفكير النقدي والإنسانية المستنيرة روحيًّا، مشيرًا إلى أن الدين كان دائمًا مصدر إلهام للواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي في الهند، وأنه أدى أيضًا دورًا أساسيًّا في السينما الهندية. وتطرق إلى كيفية مناشدة السينما الهندية، «وعلى وجه التحديد، لإنسانيتنا المشتركة من خلال نظرة دينية تعزز رؤية متماسكة لأمة متنوعة مثل الهند. ربما تتعرض هذه الروح التقدمية والعالمية لضغوطات صعود القومية الهندوسية مؤخرًا، لكن في أفلام بوليوود، لا يزال بإمكان الدين أن يكون وسيلة لإثارة الفكر النقدي وليس مجرد شعبوية دوغمائية، علمانية أو مقدسة».

«معضلات أخلاقية في الأفلام الوثائقية والأرشيفية»، عنوان ورشة للمخرجة جيهان الطاهري، تناولت الجوانب الأخلاقية التي تقع على عاتق صناع الأفلام عند سعيهم إلى تصوير الحقيقة بكل دقة وإنصاف. ما دور نقاد السينما في عملية قول الحقيقة، وما أدواتهم التي تمكنهم من تقدير مستوى المسؤولية أو التلاعب الذي استخدمه المخرجون لتمثيل أبطالهم؟

وناقشت الباحثة مريم العجراوي، في ورقة بعنوان: «تكنولوجيا السينما التفاعلية وحرية الاختيار عند المتفرج»، مسائل الاختيار وحرية المشاهد أمام شاشة السينما، بمقارنة ما تتيحه السينما التفاعلية من خيارات مع ما تقدمه السينما التقليدية التي تبدو وكأنها تقيد حرية المشاهد في أفلام مثل «ألف شهر» للمخرج المغربي «فوزي بن سعيدي» (2002م)، و«أوديب ملكًا» للمخرج الإيطالي «بيير باولو بازوليني» (1967م). كيف حاول المخرجون تجاوز حدود الإطار السينمائي قبل اختراع هذه التقنية الجديدة، وكيف بإمكان المخرجين الجدد الاستلهام من معلمي السينما لتطوير استخدامها؟

المخرج السعودي أيمن تامانو، قدم تأملات في استخدامه للقطات الأرشيفية والمكتشفة للتعبير عن تجربته المعيشة. «تامانو مخرج أفلام متخصص قضى العقد الماضي في تصوير تطور صناعة الموسيقا، من توثيق اللحظات المحورية في العروض الحية حتى الشروع في صناعة الأفلام غير التقليدية. تضمنت ممارسة تامانو في صناعة الأفلام مأساة شخصية، ولكن وبالتأكيد على أهمية السرد القصصي والأصالة، وعبر توثيق اللحظات اليومية أو غير العادية، تمكن من ابتكار سردية تمكنه من ترك إرثٍ فِلْمِيّ دائم». «كيف يُنتج بودكاست الأفلام؟ تحت هذا العنوان تحدث مبرمج الأفلام ربيع الخوري، عن عملية إنتاج بودكاست الفِلْم باستخدام موضوعات سينمائية محددة، بدءًا من اختيار الموضوعات والضيوف حتى الإعداد، ومرورًا بالتسجيل والتسليم النهائي».

طرق الحج القديمة.. آثار لعصور إسلامية مزدهرة

طرق الحج القديمة.. آثار لعصور إسلامية مزدهرة

تولي السعودية عناية خاصة بمواقع التاريخ الإسلامي، سواء في مكة المكرمة والمدينة المنورة، أو المرتبطة بالسيرة النبوية وعصر الخلفاء الراشدين في جميع مناطق المملكة. ويأتي في مقدمة تلك العناية، الاهتمام بترميم وإعادة تأهيل طرق الحج القديمة في الجزيرة العربية، التي شكلت شبكة للتواصل الحضاري والاقتصادي والثقافي قبيل الإسلام وبعده، وربطت بين الجزيرة العربية ومنافذها البرية والبحرية مع مدن القوافل والحواضر الأخرى في بلاد العراق والشام ومصر وجنوب شرق إفريقيا.. وخلال هذا التقرير نستعرض أهم طرق الحج القديمة.

درب زبيدة

يعد درب زبيدة من المعالم الأثرية المهمة في المملكة؛ وذلك لما يتميز به من قيمة ثقافية وحضارية عريقة في التاريخ الإسلامي، وكذا أهميته الاقتصادية في إنعاش الحركة التجارية منذ بزوغ فجر الإسلام الأول وفي عهد الخلفاء الراشدين مرورًا بالدولة الأموية والعباسية، حيث كانت تمر به قوافل الحج والتجارة من الكوفة في العراق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ وهو ما جعله يشكل جسر اتصال بين العراق والمشرق الإسلامي وبلاد الحرمين الشريفين، وأنحاء الجزيرة العربية واليمن، إلى جانب التواصل بين المشرق العربي وإفريقيا غربًا.

وحظي طريق الحج الكوفي بعناية من الخلفاء والسلاطين والوزراء ومحبي الخير في العصور الإسلامية المختلفة، وخُطِّط مساره بطريقة علمية وهندسية متقنة، حيث حددت اتجاهاته، وأقيمت على امتداده المحطات والمنازل والاستراحات، ورُصِفتْ أرضية الطريق بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة. وفي الوقت الحالي بذلت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني جهودًا كبيرة في الترميم والتسوير والتأهيل والتطوير والتنقيب عن آثاره بهدف تسجيل الموقع في قائمة التراث العالمي لدى منظمة اليونيسكو.

وسُمي طريق الحج من العراق إلى مكة المكرمة باسم «درب زبيدة» نسبةً إلى السيدة زبيدة بنت جعفر زوج الخليفة هارون الرشيد، لجهودها الخيرية وإصلاحاتها المتعددة على امتداد الطريق، ويرجع تاريخه إلى ما قبل الإسلام، وزادت أهميته مع بزوغ  فجر الإسلام عندما أخذ في الازدهار بدءًا من عهد الخلافة الراشدة والحقبة الأموية، وبلغ ذروة ازدهاره في عصر الخلافة العباسية الأول، حيث أنشئت عليه المحطات والاستراحات، وزُوِّدَ بالآبار والبرك والسدود والقصور والدور والخدمات المتنوعة. وتولى المهندسون المسلمون رصف مسار الطريق وتمهيده وتسهيله وإزالة العقبات وإقامة الأعلام والأميال. وقد رصد الجغرافيون المسلمون 27 محطة رئيسة و27 محطة ثانوية على امتداد الطريق الرئيس المباشر إلى مكة المكرمة، وهناك محطات أخرى وبرك وآبار عديدة ومعالم على تفرعات الطريق الأخرى التي يمتد بعضها إلى المدينة المنورة.

ومن أبرز المحطات الرئيسة التي يمكن مشاهدة آثارها ومعالمها في الوقت الحاضر على درب زبيدة، موقع فيد الأثري في منطقة حائل الذي يعد أحد أهم المحطات الرئيسة على هذا الطريق، وموقع الربذة الإسلامي، ومعدن بني سليم وذات عرق، وغيرها من البرك والمحطات الرئيسة الواقعة على الطريق التي يبلغ عددها حوالي 54 محطة. وكان للسيدة زبيدة أعمال خيرية جليلة على امتداد الطريق وفروعه، ومن أهم أعمالها الخيرية التي تركت أثرًا كبيرًا في نفوس المسلمين في حياتها وبعد مماتها حتى اليوم إنشاؤها عين زبيدة، التي لا تزال آثارها ومعالمها المعمارية مشاهدة للعيان في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة.

طريق الحج المصري

يضم طريق الحج المصري في منطقة تبوك ومحافظاتها عددًا من القلاع والحصون والمواقع الأثرية التي كانت شاهدةً على تاريخنا الإسلامي وشاهدة على نشوء الدولة السعودية وملحمة توحيدها وتأسيسها، حيث كان يسلكه حجاج مصر ومن رافقهم من حجاج ليبيا وتونس والمغرب العربي وإفريقيا.

وأسهمت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في ترميم هذه الآثار وإعادة الحياة إليها على طريق الحج المصري بداية من حقل داخل المملكة وينتهي بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وتوظيفها اقتصاديًّا وثقافيًّا وتسجيلها في قائمة التراث العالمي باليونيسكو.

ومن أشهر المواقع الأثرية على طريق الحج المصري؛ قلعة المويلح الأثرية التي أسست في عام 968هـ لحماية قوافل الحجاج عند نزولها إلى المويلح وحفظ أقوات الحجاج وأمتعتهم في القافلة وإدارة المنطقة، والحي التراثي بوسط مدينة ضباء الذي يمثل قلب المدينة الملاصق للميناء البحري ويضم مباني قديمة وساحات مفتوحة يعود كثير منها إلى منتصف القرن التاسع عشر ويمثل الجزء التراثي المتبقي من المدينة القديمة، وأيضًا قلعة الأزنم وهي موقع أثري شهير أُنشِئَ في عهد السلطان المملوكي محمد بن قلوون وأُعيد بناؤه في عهد آخر سلاطين المماليك قانصوه الغوري عام 916هـ، وكانت هذه القلعة محطة رئيسة على الطريق لحفظ الأمن وودائع الحجاج القادمين على طريق الحج المصري والمواد التموينية التي تبعث لهم لاستخدامها في طريق العودة، إضافة إلى موقع الآبار السلطانية بوادي ضباء، وموقع الآبار السلطانية بوادي عنتر.

طريق الحج البصري

يبدأ هذا الطريق من مدينة البصرة مرورًا بشمال شرق الجزيرة العربية عبر وادي الباطن مخترقًا مناطق صحراوية عدة أصعبها صحراء الدهناء، ثم يمر بمنطقة القصيم التي تكثر فيها المياه العذبة، وبعدها يسير الطريق محاذيًا طريق الكوفة – مكة المكرمة حتى يلتقيا عند محطة أم خرمان التي تقع على مسافة عشرة أميال من موقع ذات عرق.

ويوجد على امتداد طريق البصرة 27 محطة رئيسة، تقع حاليًّا ضمن حدود الأراضي العراقية والكويتية والسعودية، ويمر بعدة قرى ومنازل للمياه منها جديلة فالدفينة وبقبا ومران حتى يصل إلى أم خرمان «أوطاس» شمال شرق مكة المكرمة.

ومن أهم المواقع الأثرية على الطريق؛ الآبار والسدود والقصور المهمة في منطقة القصيم، وأطلال قصر كبير مبني بالحجارة له بقايا عقود نصف دائرية في الأسياح وبالقرب منه آثار العيون والقنوات القديمة والبرك والسدود، وفي ضرية لا تزال آثار البلدة القديمة باقية، إضافة إلى بركة الخرابة الواقعة عند التقاء الطريقِ طريقَ الكوفةِ بالقرب من أم خرمان وذات عرق.

طريق الحج الشامي

يربط بلاد الشام بالأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وعرف باسم التبوكية نسبة إلى بلدة تبوك التي يمر بها، ويبدأ مساره من دمشق ويمر ببصرى الشام «درعا»، وبمنازل أخرى أهمها أذرعات، ومعان والمدورة «سرغ»، ثم يدخل أراضي السعودية ليمر على حالة عمار، ثم ذات الحاج بتبوك، ثم الأقرع، ثم الأخضر الذي تقع فيه محطة المحدثة، ثم محطة المعظم، ثم الحجر، ثم العلا ثم قرح. واهتم الخلفاء الراشدون والأمويون بعمارة الطريق الشامي فوضعوا العلامات والمنارات على طول مساره، وبنوا البرك والصهاريج والقنوات وجددوا المساجد. وسجلت المسوحات الأثرية على الطريق، وجود برك مياه، وبقايا قنوات، ونقوش كوفية تذكارية تركها المسافرون على الطريق، بجانب نقوش من العصر المملوكي تشير إلى ترميم بعض منشآته.

طريق الحج اليمني

منذ العصور القديمة وهو يربط بين اليمن والحجاز؛ لذا فقد تعددت طرق الحج اليمنية واختلفت مساراتها، وتعددت كذلك المدن التي تسير منها، ولعل أهم المدن اليمنية التي كانت تنطلق منها جموع الحجاج اليمنيين إلى مكة هي عدن، وتعز وصنعاء وزبيد وصعدة في شمال اليمن.

وكان حجاج اليمن يسلكون ثلاث طرق هي؛ الطريق الساحلي والطريق الداخلي أو الأوسط، والطريق الأعلى، ولكل منها محطاته.

طريق الحج العماني

كان يسلكه حجاج عُمان إلى المشاعر، فأحدهما يتجه من عمان إلى يبرين، ثم إلى البحرين، ومنها إلى اليمامة، ثم إلى ضرية وهي ملتقى حجاج البصرة والبحرين. كما كان بإمكان القوافل القادمة من عُمان اجتياز منطقة الأحساء لِتلتقيَ طريقَ اليمامةِ مكة المكرمة.

وأيضًا كان هناك طريق آخر لحجاج عمان يتجه إلى فرق ثم عوكلان، ثم إلى ساحل هباه وبعدها إلى شحر، ثم تتابع القوافل سيرها على أحد الطرق اليمنية الرئيسة المؤدية إلى مكة.

طريق حج البحرين «اليمامة»

يعد رافدًا مهمًّا من روافد طريق حج البصرة، لما له من أهمية؛ إذ إنه يعبر الأجزاء الوسطى من الجزيرة العربية، مارًّا بالعديد من بلدانها وأقاليمها، ويربط بين الحجاز والعراق.

وحظي طريق حج البحرين -اليمامة- مكة المكرمة، برعاية الدولة الإسلامية وخصوصًا توفير الخدمات المهمة، وحماية الحجاج السائرين عليه من أي اعتداء يقع عليهم من جانب قطاع الطرق. وكان طريق اليمامة يلتقي طريقَ حجِّ البصرة؛ إذ لليمامة طريقان إلى مكة المكرمة.

رحيل أمجد ناصر بعد «حياة كسرد متقطع»

رحيل أمجد ناصر بعد «حياة كسرد متقطع»

خلف رحيل الشاعر الأردني أمجد ناصر الذي غيبه الموت الأربعاء 30 أكتوبر الماضي، بعد صراع طويل مع مرض السرطان؛ حسرة وفقدانًا كبيرين في أوساط الشعراء والأدباء العرب، بصفته أحد أبرز الشعراء العرب، الذين بلوروا قصيدة مفتوحة على احتمالات الشعر ومأزق الوجود. وهو صاحب تجربة أدبية شديدة التنوع والخصوصية، فهو إلى جانب الشعر، كتب في أدب الرحلة، وأصدر كُتبًا ممتعة فيه، وفي السنوات الأخيرة أصدر أكثر من رواية، حازت إعجاب النقاد. جمعت حياة أمجد ناصر بين تجارب إنسانية ونضالية عدة، وتنقل بين مدن عربية شتى ليستقر به المقام في لندن.

من كتبه: مديح لمقهى آخر، ومنذ جلعاد كان يصعد الجبل، وسُرَّ من رآك، وحياة كسرد متقطع، ورعاة العزلة، ووصول الغرباء، وأثر العابر، وخبط الأجنحة، ومرتقى الأنفاس، وحيث لا تسقط الأمطار، وهنا الوردة… وُلد أمجد ناصر في الرمثا عام 1955م، ودرَسَ العلوم السياسية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وانخرط في العمل مع منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال صحافتها في بيروت وقبرص.

حاز جائزة الدولة التقديرية في حقل الآداب، ووسام الإبداع والثقافة والفنون الذي منحه إياه الرئيس الفلسطيني محمود عباس؛ تقديرًا لدوره في إغناء الثقافة العربية، وبخاصة الأردنية والفلسطينية.

وتنشر «الفيصل» قراءة للديوان الأخير لأمجد ناصر «مملكة آدم» (منشورات المتوسط) بقلم الروائي والناقد طارق إمام، وتعيد نشر مقالة “الطريق إلى حلب” التي كان الراحل خص بها «الفيصل»، وأيضاً مقالة للشاعر والناقد عمر شبانة حول إحدى روايات الراحل.


“مملكة آدم” لأمجد ناصر: قيامةُ اللغة

 

من بين جميع المحكيات الكبرى، ثمة واحدة مكتملة سلفًا، ولا ينقصها سوى أن تقع: تلك هي القيامة.

يفتقر الجحيم، كمُتضمّنٍ قيامي، إلى الشرطين الجوهريين لكل ما ندعوه “موجودًا”: اختباره في واقعٍ تجريبي، (واستناده من ثم إلى مرجع يتيح المحاكاة)، ووقوعه في زمن قائم، أي قابليته ليكون معطى تاريخانيًّا. الجحيمُ تصوّر لا تَمثُّل له خارج اللغة، ومنفيٌّ في زمن لا وجود له: المستقبل، بالتالي فهو استعارة كاملة.

في نصه الشعري الأحدث “مملكة آدم” (منشورات المتوسط، ميلانو)، يشيّد أمجد ناصر قصيدةً قيامية قوامها جحيم جديد، بطبقات الجحيم السبع، تتمثّلها هنا حركات القصيدة ومفاصلها، لتحاكيها شكليًّا قبل أن تغور في معارضتها دلاليًّا. لكن “مملكة آدم” ليست استشرافًا يتبنى كل ما ندعوه المستقبل وندّعيه، ليست قراءة طالع، ليست قصيدة الرائي أو نبوءة النبي المتقنع بالقصيدة. على العكس، فإن مملكة آدم، وربما هذا هو مناط تفردها، هي نص استباقٍ جوهره الاسترجاع، ينشئ لذلك قصيدة تذكُّر، إذ تصبح القيامة (في قلبٍ زمنيٍّ عنيف) ماضيًا، وكل خطوةٍ على الأرض بعثًا، وكأنها تصوغ محكية النهاية بوصفها شِعر البدء.

القصيدة تبدأ من الذات الإنسانية لتنتهي بها موجودًا مستذئبًا، وكأنها رحلة من الثقافي في ذروة مساءلته هويته إلى الغريزي في قمة إعلانه عن نفسه. تنتهي “مملكة آدم”، في نقضٍ عنيف للرحلة الخطية الكرونولوجية للحياة الإنسانية، بارتدادٍ كاملٍ إلى الطفولة، كأنما كانت رحلة عكسية باتجاه المهد فيما موّهت بأنها معراج نحو النهاية، ولتصبح أنياب الغريزة هي نفسها أسنان الرضيع: «لعله رأى في عمق فمي الذئبي أسنانَ الحليب التي ربّتها أمي بالنذور والصلوات».

الموت. إنه بلا مواربة سؤال هذا النص وجرحه المفتوح، سؤالٌ لا يكف عن تكثير نفسه، حتى في أشد الصيغ بداهة: «كم يدًا للموت؟/ كم ذراعًا؟/ كم قدمًا؟/ كم قرنَ استشعار/ لكي يستطيع التنقُّل/ كالبرق،/ بين وجوهٍ، لا أسماءَ لها/ وأسماءٍ، لا وجوه لها؟/ على أي توقيتٍ يشتغل؟/ هل يملكُ ساعةَ مُنبِّه؟ ألا يُصابُ بالغثيان/ عندما يتنشّقُ هواءَ الخردل أو السارين؟».

يتجسّد الموت، متخلصًا في نص أمجد ناصر من جوهره المجرد، وفي الوقت نفسه يصبح موجودًا داخل الدنيا لا تاليًا لها. قبالته، تترى شخوص العالم، ممسوخةً، وهي تقدم نفسها كتحوّلات لمخلوقاتٍ أخرى، في “مسخ كائناتٍ” جديد لا يلتزمُ الشرطَ “الأوفيدي”. شخوص هذا النص فقدت وجوهها، ليصبح “القناع” هو الوجه الوحيد الممكن للذات، كإن إنكار الملامح شرطٌ للانتماء إلى “مملكة آدم”: «هذه الوُجوهُ أقنعةٌ لمخلوقاتٍ أخرى، لا تشبهنا، شُقَّها كي ترى الأسلاك والوشائع تنقلُ رسائل البلطة». المسخُ هنا متصلٌ بالتشيؤ، بالآلة الفاتكة وقد حلت محل الكواسر في نص ما قبل الحداثة، لتصبح وحش العالم ما بعد الحداثي ونصّه معًا.

ليس الموتُ هذه المرة محض انطفاءٍ قدري، بل فعلٌ ممنهج يقطع الحياة بإرادةٍ واضحة. إن الموت هنا يخون جوهره بالذات، بل يخون “حكمته” من كونه اتصالًا بما بعديةٍ ما، بالمكتوب، وبالحساب النهائي: «لا تقولوا إنه الموعد،/ لا تقولوا إنه مكتوب،/ لا تقولوا إن في ذلك حكمة، لا تُدركها أبصارُنا، فليس هذا وقت أولئك الأطفال الذين يتعلّقون، برعبٍ، في أذيال أمهاتهم».

نبوّةٌ مَغدورة

في معارضتها القصيدة الرسولية، لا تُنكر الذات الشاعرة على نفسها النبوة، لكنها في الوقت نفسه تجردها من “مادتها الفعّالة” ومن جدواها: «أنا نبي من دون ديانة ولا أتباع. نبي نفسي. لا ألزم أحدًا بدعوتي، ولا حتى أنا، إذ يحدث أن أكفر بنفسي، وأجدف على رسالتي. نبي ماذا؟ ومن؟ لا أعرف شيئًا في هذه الظلمة التي تلفني».

نبي، من ثم، يقف في طابور “العاديين” لحظة النهاية: «جفلوا، ليست هيئتي لرسول ولا يُرمى الُرسُل، كيفما اتفق، في عربات الموتى. تغيرت ملامحُهم، فقلت لهم كلا، لستُ رسولًا إلهيًّا، فلا أقوى على ذلك».  نبيُّ الهامش والتخوم والهزيمة هو رسول هذه القصيدة: «أنا رسول الذين ظلوا في البراميل والسارين في مملكة آدم التي ترون من مرتفعاتكم البعيدة هذه اللهب الذي يتصاعدُ من أطرافها».

الشاعرُ في الجحيم (ناقضًا الثنائية بين سماء وأرض أو دنيا وآخرة)، عالقًا ومراوحًا بين حياةٍ وموت: «قد تفكر أنك في الآخرة، وهذا خطأ/ فأنت لا تزال في الحياة الدنيا/ ولكن، تشابهت عليك الصور». بالتواشج، ينقض الشاعر العلامات المكانية في جاهزيتها الإيديولوجية بين أعلى/ أسفل، وبكل إحالاتها الثقافية والطبقية والميثولوجية. الشاعر عالق (أليس هذا في ذاته موقفًا عما ينبغي أن يكونه موقع الشاعر؟)، والمفارقة بين ما هو فوقي وما هو سفلي تذوب ليصبح البطل هو البرزخ.  وفي إذابةٍ أخرى لثنائية (سردي/ شعري) ينهض أمجد ناصر بقصيدته، صراحةً، على شرف مروية، دون أن يُخمدها كمحفزٍ سردي، وبحيث يبدو النص في كُليّته مراوحةً تُهجِّن السردي بالشعري، منعكسةً على شكلانية الأسطر الشعرية، المراوحة بدورها بين تقطيعات الشعر واتصالات السرد، وعلى البلاغة الكلية للنص التي تتباين بين منحى اتصالي، إحالي، لا يدير ظهره للكنائي وآخر لا يخلو من عتمة الاستعاري.

الشاعر في الجحيم، يختبر “دور” الشاعر نفسه: أيّ “وظيفةٍ” هي الوظيفة الشعرية: الاكتفاءُ الوجودي أم التحريض الأيديولوجي؟ أي نبرة: الصراخ أم الهمس؟ أي موقفٍ من الجماعة: الانضواء أم القطيعة؟ وأي مرجعٍ هو واقع القصيدة: الوجود أم اللغة؟

ديالكتيك الصوت والجوقة

«كنتُ يومًا». هكذا تنهض الذات الشاعرةُ بمونولوجها الاستهلالي في البرولوج الصفري، غير المرقم. أنا شاعرة تؤسس صورتها بوصفها موجودًا ماضويًّا، تكاد تتجاوز دورها كمتذكر لتصبح هي ذاتها ذاكرة. فضلًا عن ذلك هي ذات متحدة بالموجودات، أو حلت فيها حتى صارت مع الوجود موجودًا جمعيًّا واحدًا: «كنتُ يومًا هذه الورقة التي تسقطُ في بُطء،/ الغصنَ الصامد في وجه الريح،/ الوردةَ التي أنكرت نفسها عندما قدمها الخريف/ إلى مُلهمته الصهباء،/ النمر الذي يظن أنه حر فيما هو في حديقةٍ مسيجة،/ الأرضة التي تأكل المهد والصولجان».

تبدأ الذات نصها من موقع الموت، في لحظة قيامتها: «أنا الذي ينتظرُ في طوابير الواقفين أمام الأرشيف السماوي مع موتى لا أسماء لهم». من هذه العتبة ستفتح الذاتُ الشاعرة بوابة الجحيم الأولى، منطلقةً من السؤال، لا الإجابة: «كم يدًا للموت؟/ كم ذراعًا؟/ كم قرن استشعار». سينسحب المونولوج، ومعه الأنا، لصالح نص منفتح على ضمير المخاطب في الحركة الثانية، والمخاطب هنا جماعة وليس فردًا: «لا تقولوا إنه الموعد،/ لا تقولوا إنه مكتوب،/ لا تقولوا إن في ذلك حكمة لا تدركها أبصارنا، فليس هذا وقت أولئك الأطفال الذين يتعلقون، برعبٍ، في أذيال أمهاتهم». قصيدة “نهي”، والنهي هنا يخص “القول”، أي “الصوت”، الصوت نفسه الذي أنهت به الذات الشاعرة مونولوجها قبل برهةٍ بوصفه طوق نجاتها الوحيد وأثرها الأخير الباقي: «الصوت،/ هذا الصوت/ المرتد بآياته الضالة إلى الدواخل والشروخ».

غير أن نظرة متأنية ستكشف مبرر هذا الصراع بين صوتين: واحد مرتد إلى الداخل هو صوت الذات، وآخر متجه نحو الخارج هو صوت الجماعة. لن يلبث النص أن يترجمهما في ديالكتيك طرفاه (صوت) و(جوقة)، يخلقان جدلهما بالتقاطع مع الصوت الشعري الأساسي. ورغم أن مملكة آدم تنشئ عالماً استعاريًّا، إلا أنه أيضًا عالمٌ مرآوي، عاكس لحاضر الأشلاء في لحظةٍ ليست بعيدة بحال عن الجحيم كمتخيّل. هذه المرة، يبدو أن الميثولوجيا تخاصم الانكفاء على شرطها كنص مغلق وقد تحوّلت فنيًّا لميتا نص، كما سنفصِّل، لتنفتح على مجمل إسقاطاتها المبذورة في نص “تاريخاني” يقبل، لذلك، تأويلًا سياقيًّا مادته الحاضر وليس فقط قراءة مغلقة، ما يجعل “صبحي حديدي” في تقدمته النقدية للنص يذهب إلى أن «ليس ثمة مبالغة في القول إن المأساة السورية هي ميدانه ومشهديته».

القصيدةُ تُعري نفسها

هل يضع الشاعر نفسه في الجحيم ليعيد تقليب أسئلة الشعر؟ يبدو أن الإجابة نعم، فأمجد ناصر يقدم نصًّا قلقًا، ومن أجل ذلك فإنه لا ينفك يتململ من صيغة إيهامية محكمة، ليصنع نصًّا فوق نص، نصًّا يعري آخر ويكشفه لحظة الصنعة. يُنشئ أمجد ناصر في “مملكة آدم” ميتا قصيدة، تعترف بنفسها من اللحظة الأولى كمتخيل. ربما لذلك تحيل “مملكة آدم” إلى نص قيد التشكل، أو يوهم بذلك، أثناء عملية التلقي ذاتها. هنا قصيدة واعية بنفسها كقصيدة، تفكر في نفسها كخطاب جمالي، مُراوِحةً بين هذه البنية المفتوحة اللاإيهامية وبين عالمها الإيهامي الذي يضع متلقيها مباشرةً، ومن اللحظة الأولى، مكان شاعرها.

«وصلتُ إلى هنا، ولم يفعل ذلك حي قبلي، ربما شاعران، أحدهما يسمى المعري، والثاني يدعى دانتي».  هذا “الإسناد”، هذا الكشف عن المرجعية “النصية”، إنه ملمح جوهري في تعرية الإيهام، إذ يعي النص (عوض الناقد، وقبله) بمجمل مرجعياته النصية ويكشفها دون وجل داخل إطاره الإيهامي، ليزعزعه، أو ليصبح هو نفسه بالأحرى، وعيًا نقديًّا داخل الوعي الشعري. إنها، بمعنى أعمق، قيامةُ اللغة، بعثها وقد أفلست، أو كادت، في واقعٍ يدير ظهره لها، لتعيد تعريف نفسها في نص المنتهى، نص المطلق.

«إنني أدخل في تاريخ وأخرج من تاريخ، وأخلط بين مشاهد الأرض ومشاهد السماء»: تعريةٌ ثانية، للرؤية والتقنية الشعرية معًا.

تعرية الإيهام لن تلبث أن تُعمق اشتغالها بتشكيكٍ عميق هو التشكيك في طبيعة “الجحيم” شعريًّا: «أهذه ألعاب فيديو؟ أم صور متحركة، لا تلبث كائناتُها أن تنفض أجسادها من الردم والدم، أهذه الدنيا؟ أم الآخرة؟ أم لعلها هذياناتُ الحشيش والكحول والترامادول؟». احتمالات عديدة تضعها القصيدة لطبيعة هذا الواقع الشعري، محصلتها جميعًا: واقع افتراضي، محض نسخة “سيبرية” تلائم جحيم واقع ما بعد الحداثة، حيث الحرب نفسها محض صورة في شاشة.

ربما من هنا بالتحديد يحصل التناص مع “غفران” المعري أو “جحيم” دانتي على صبغته القلقة كمعارضة وليس المتساوقة كمحاكاة: المحاكاة ترسيخٌ للإيهام، فيما المعارضة فعل تعرية يؤكد على كون الواقع الشعري (وكل واقعٍ فني) متخيلًا. ومن هنا، تفكك قصيدة ناصر عمق القصيدة الرسولية نفسها من خلال خلخلة عنيفةٍ للهويات المستقرة، وفي مركزها هوية الذات الشاعرة نفسها. تمنح “مملكة آدم” النبرة الرسولية السؤال عوضًا عن الإجابة، وهي بهذا المنطق تجعلها قصيدة تشكيك، محافِظةً أيضًا على المراوحة والتباس الهوية.

“الواقع الافتراضي”: إنه سؤالٌ آخر شديد الأهمية في هذا النص. لقد قطعت القصيدة العربية رحلةً مجهدة في اقترابها من الأرض، نازلةً شيئًا فشيئًا من السماء، التي منحتها فضلًا عن جوهرها المفارق قداستها أيضًا، إلى نثار الخبرات اليومية والمتخيّل المنتزع من المعيش. لكن الواقع الافتراضي يبدو خطوةً أبعد من الواقع التجريبي، إذ إن الواقع الافتراضي نفسه محاكاة، واقعٌ غير موجود في الحقيقة، وباعتماد القصيدة الواقع الافتراضي مرجعًا، فإنها تغدو محاكاةً لمحاكاة، تغدو استحضارًا لوجود “سيبري” هو بدوره محض مُتخيّل. تتمثل “مملكة آدم” ذلك الواقع الافتراضي بقوة، بهدف خلخلةٍ جديدة تطرح، ربما، السؤال الأخطر: ما الواقع، وأين يقع، في نفسه أم في اللغة أم في الصورة؟

يُذيبُ أمجد ناصر في “مملكة آدم” الثنائيات المَرعية كلها، إنه الفعلُ الشعري القائم هنا بلا هوادة، ليلتئم كلُّ سؤالين أخيرًا في جوهر سؤالٍ واحد غير منفصم، وبحيث يصبح سؤال الموت، هو بالذات، سؤال الحياة.


مقالة الطريق إلى حلب : https://www.alfaisalmag.com/?p=3809

ومقالة عمد شبانة : http://www.alfaisalmag.com/?p=9749

مثقفون عرب يعيشون في أوربا يرصدون ما يطرأ من تحول شهادات عن أوربا التي يعايشون بصفة يومية تقلباتها ويعاينون عن كثب مواقفها من الآخر

مثقفون عرب يعيشون في أوربا يرصدون ما يطرأ من تحول

شهادات عن أوربا التي يعايشون بصفة يومية تقلباتها ويعاينون عن كثب مواقفها من الآخر

مثقفون عرب يعيشون ويعملون في مدن أوربية. وهم، في صورة أو أخرى، باتوا يختبرون جدية هذا التحول الذي تشهده أوربا في شكل عام.

هنا يدلون بشهادات عن أوربا التي يعايشون بصفة يومية تقلباتها، سلبًا كانت أم إيجابًا، ويعاينون عن كثب مواقفها من الآخر، الذي تشرع له الأبواب تارة وتغلقها في وجهه تارة أخرى.

نزعات التطرف وكراهية الآخر

سمير جريس كاتب ومترجم مصري يقيم في ألمانيا

اليمين يتقدم في معظم دول أوربا، في إيطاليا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا، وأيضًا في شرق أوربا، في المجر وبولندا؛ وبالتأكيد ستشهد المرحلة المقبلة تغيرًا في السياسات الأوربية، تجاه قضايا اللجوء والهجرة مثلًا، كما ستشهد تزايدًا لنزعات التطرف وكراهية الآخر، المختلف لونًا وبشرة ولغة وثقافة. ولهذه الزحزحة إلى اليمين أسبابها الموضوعية بالطبع، ولعل أحد الأسباب الرئيسة هي موجة اللجوء الكبيرة التي شهدتها أوربا بعد عام 2014م، وعدم قدرة الاتحاد الأوربي على معالجة أسباب الهجرة واللجوء، ووقف الحروب، وكذلك عجزه عن التعامل بعقلانية وتوازن وإنسانية مع هذا الملف، فكان أن ساد في البداية، في ألمانيا مثلًا، ما سُمِّي بـ«ثقافة الترحيب»، وكانت أخبار اللاجئين والترحيب بهم تتصدر نشرات الأخبار، لكن سرعان ما انقلب الأمر إلى النقيض تمامًا، وسادت ثقافة كراهية للأجانب، ولا سيما بعد حدوث بعض الحوادث الإرهابية من جانب عدد محدود جدًّا من اللاجئين.

هذه الموجة أحدثت شعورًا لدى قطاعات من الشعوب، ولا سيما بين العاطلين عن العمل أو ذوي الدخول الضعيفة، بأن حكوماتهم تهملهم وتهتم باللاجئين؛ وهذا ما استغله اليمين الشعبوي في معظم دول أوربا، ونراه بشكل واضح في شرق ألمانيا، حيث ما زال يشعر جزء كبير من مواطني ألمانيا الشرقية سابقًا بأنهم من ضحايا الوحدة الألمانية ومن ضحايا العولمة، وهذا ما جعل حزبًا يمينيًّا متطرفًا مثل حزب «اليمين من أجل ألمانيا» يكتسح الانتخابات المحلية الأخيرة ويحصل على نسبة عالية من الأصوات (تزيد على العشرين في المئة). إذن، ستحدث إعادة لترتيب الأولويات من وجهة نظر الحكومات اليمينية، وسيكون معنى هذا انفتاحًا أقل، وتضييقًا على اللجوء والهجرة، وكما يرى المرء الآن في إيطاليا وفرنسا والنمسا، وأيضًا في الولايات المتحدة الأميركية، كما ستقوى الاتجاهات القومية، كما نرى في حالة بريطانيا العظمى (البريكست كمثال).

على المهاجرين العرب كي يتفادوا مواجهات مع هذا الصعود اليميني، تعلم اللغة، والعمل، والاندماج إلى حد ما في المجتمع، حتى لا يسود شعور بأن هؤلاء اللاجئين يعيشون عالة على دافع الضرائب الأوربي.

الجالية الإسلامية
ومواجهة السياسات العنصرية

مروان علي شاعر وكاتب سوري كردي يقيم في مدينة إسن بألمانيا

هناك خوف وقلق بين المهاجرين المسلمين وخصوصًا من صعود اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوربية، وهو قلق مشروع ومبرَّر ولكنه أحيانًا يتجاوز الحد المسموح به. وربما تتحمل الجاليات المسلمة قسمًا من المسؤولية، بابتعادها من العمل السياسي وعدم الالتحاق بالأحزاب السياسية وخصوصًا التي تتبنى قضايا المهاجرين وتدافع عن حقوقهم. يضاف إلى ذلك افتقاد الجاليات الإسلامية التنظيمَ، ووجود خلافات كبيرة بين صفوفها لأسباب كثيرة؛ مذهبية وعقائدية وسياسية. فأكبر جالية مسلمة في ألمانيا وأوربا هي الجالية التركية، وللأسف الشديد تنحاز بقوة ومن دون تردد إلى مواقف الدولة التركية ورئيسها رجب طيب أردوغان، وهو الأمر الذي يعمق الشرخ بين صفوف الجالية المسلمة ويؤدي إلى ضعف تأثيرها طبعًا في برامج الأحزاب السياسية.

كان وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر قدم للحكومة الألمانية خطة شاملة للهجرة، تتضمن إنشاء مراكز احتجاز حدودية خصوصًا في المعابر الحدودية مع النمسا. وأكد وزير الداخلية الألماني أن خطة الهجرة الشاملة تصب في مصلحة جميع دول الاتحاد الأوربي؛ لأيجاد حل عادل وشامل لهذه المشكلة التي تقلق الجميع. والخطة الشاملة للهجرة التي أعلنها وزير الداخلية الألماني وزعيم بافاريا القوي تتضمن إقامة مراكز عبور قرب الحدود النمساوية الألمانية، واحتجاز اللاجئين الوافدين برًّا إلى ألمانيا من النمسا وهنغاريا ودول البلقان، والتأكد من أن لهم الحق في التقدم بطلب اللجوء إلى السلطات الألمانية، من خلال البنك الأوربي للمعلومات والبصمات يوروداك. الهدف الأساس من خطة هورست زيهوفر إنشاء نظام حدودي جديد لمنع دخول لاجئين قدموا اللجوء في دول أوربية أخرى مثل بلغاريا واليونان وإسبانيا وهنغاريا ودول البلقان.

ويطالب وزير الداخلية الألماني الدول الأوربية الأخرى بالالتزام بالاتفاقيات الأوربية السابقة حول اللجوء، وتوقع حوارًا صعبًا مع بقية دول الاتحاد الأوربي التي ترفض عودة اللاجئين، الذين قدموا اللجوء فيها وغادروها إلى ألمانيا. هناك نقاط كثيرة وغامضة في خطة زيهوفر وتواجهها عقبات كثيرة؛ منها مثلًا رفض الحكومة الإيطالية مجرد مناقشة استعادة اللاجئين الذين قدموا اللجوء فيها وغادروها إلى  ألمانيا ودول أخرى من دول الاتحاد الأوربي. وترى الحكومة الإيطالية أن فتح هذا الباب سيكون كارثيًّا على الاقتصاد الإيطالي، ولا تمتلك إيطاليا أصلًا القدرة على استعادة كل اللاجئين الذين وصلول إليها سواء عبر البر أو البحر. كما أن فكرة إنشاء معسكرات لاستقبال اللاجئين الذين وصلوا بحرًا إلى إيطاليا من دول شمال إفريقيا تُواجَه برفض عدد من الدول الإفريقية التي تتهم أوربا وألمانيا بمحاولة التهرب من مسؤولياتها تجاه هؤلاء اللاجئين.

منظمة برو آزول التي تتولى تقديم الاستشارة القانونية المجانية للاجئين في ألمانيا تتهم وزير الداخلية الألماني وخطته بمحاولة لأغلاق الأبواب أم اللاجئين الهاربين من القمع والاضطهاد والحروب، وطرد الذين تمكنوا من الوصول إلى ألمانيا عبر إجراءات قاسية مثل: أنواع الإقامات، ومنع لمِّ الشمل للمتزوجين، وحرمان الحاصلين على إقامات مؤقتة من مزايا كثيرة، كانت تُمنَح سابقًا كلَّ اللاجئين حتى الذين لم يبتّ في طلبات لجوئهم.

الكرة الآن في ملعب الجالية الإسلامية لمواجهة السياسات العنصرية، ولذلك لا بد لها من توحيد كلمتها لإغلاق الأبواب أمام اليمين المتطرف الذي يختبئ خلف شعارات وطنية براقة لكسب المزيد من أصوات الناخبين. كما أن الأحزاب الليبرالية والاشتراكية مطالبة أيضًا بمراجعة برامجها الانتخابية.

العنصرية تضرب معاقل أهم التجارب الديمقراطية

زهير كريم كاتب عراقي من بلجيكا

تأثير اليسار الأوربي في السنوات الأخيرة أصبح ضعيفًا على القرار السياسي، وظهرت برامجه مترهلة في نظر الناخب الأوربي الذي يواجه تحديات حقيقية، ومخاوف تظهر مُكَبَّرةً عادةً في الصورة التي يقدِّمها اليمين. في المقابل صار تأثير اليمين جليًّا. وفي الواقع إن هذا التأثير كان موجودًا على الدوام، وما حدث أولًا أن حركات التطرف الإسلامية كانت سببًا آخر في تراجع التأثير الذي كان يحدثه خطاب اليسار المناصر بشكل أو بآخر للمهاجرين والقضايا العربية، ثانيًا -وهو تحصيل حاصل- صعود خطاب اليمين الشعبوي، وتكبيره لصورةٍ مخيفة للعربي والمسلم المهاجر حتى ظهرت شخصيته في السنوات الأخيرة نمطية، قريبة جدًّا من صورة الإرهابي المليء بالكراهية للغرب.

وبالطبع إن النخبة الأوربية تتفهم زيف هذه الصورة، أو على الأقل المبالغة في إظهارها بهذا الشكل، لكن الكرة في ملعب المواطن العادي الذي يخضع لخطاب يبدو في ظاهره واقعيًّا، خطاب ما يسمى بالنازية الجديدة، أو اليمين المتطرف الذي وظف سردية الإسلام نفسه عن الغرب في هذا الخطاب؛ إذ تصف هذه السردية الغرب بالكافر المُعادي، وأن هذا العدو يعمل بكل الوسائل لهدم الدين وتفتيت النسيج الاجتماعي للمسلمين، وتدمير اقتصاد البلدان العربية، أو توريطها في حروب وهمية من أجل استمرار عجلة منتجاتها؛ مصانع الأسلحة على وجه الخصوص.

ومن ثَمَّ خلقت هذه السردية ما يسمى بالإسلاموفوبيا. ولا أريد أن أردد مقولات مستلةً من نظرية المؤامرة، لكن إشارات ما تجعل المراقب للتحولات السياسية في أوربا يشعر أن صورة اليمين التي يقدمها للناس في أوربا عن الجاليات العربية، هي صورة ليست نزيهة.

نعم هو يعتمد على معطيات الشارع، الانفجارات، كما حدث في باريس ومدريد وبروكسل وبرلين، يعتمد على خطاب الكراهية في المساجد، على تزامن كل الهجرة السورية في السنوات الثلاث الماضية مع مشاكل ثقافية جديدة لم يعرفها المجتمع الأوربي من قبل؛ لهذا اختلط الخطاب السياسي بالاقتصادي بالأمني لتقديم صورة مرعبة، يراد منها إقناع المواطن الأوربي بأنه أصبح مهمشًا، فقيرًا، ومهددًا أيضًا بعدم التوازن الديموغرافي؛ إذ يزداد عدد العرب دائمًا أمام انخفاض في عدد المواطنين الأصليين.

على كل حال، فأنا لا أرى أن أوربا منغلقة الآن، أو أن هناك مشكلة في قبول الآخر، لكن العنصرية موجودة، ارتفع صوتها، رغم أن هذا الصوت كان موجودًا دائمًا، وبخاصة في أوربا الشرقية قبل أن يصل أخيرًا إلى معاقل أهم التجارب الديمقراطية، التي اعتمدت منظومات الحقوق بأفضل صورة لها، في السويد مثلًا.

أوربا لن تنغلق على نفسها

لميس كاظم أديب عراقي مقيم في السويد

مذ مطلع القرن الحالي وصلت أحزاب اليمين المتطرف في أغلب الدول الأوربية إلى سُدة الحكم. كان ذلك نتيجة إخفاق الكتل اليسارية والاشتراكية الحاكمة في تخفيض مستوى البطالة وتوفير الرفاهية وفشل كامل لبرامج اندماج الأجانب في المجتمع. لقد استغل هؤلاء المتطرفون هذه الفجوات ليسعِّروا من حدة المواجهة، ويلقوا باللائمة على الأجانب كأحد أهم أسباب هذه الإخفاقات. لكن حالما دخل ممثلو أحزاب اليمين المتطرف إلى البرلمانات الأوربية اتضحت صورتهم أمام الناخب بجلاء وخاب ظنه فيهم؛ إذ لم يقدموا خططًا تنموية أو برامج اقتصادية أو اجتماعية أو اندماجية ناجحة، بل ظلت خطاباتهم استعراضية، فوقية، تؤجج الصراع الثقافي والسياسي.

ونتيجة ذلك ظهرت أزمات سياسية عمَّقت حدّة التطرف، وارتفعت نسب الجرائم بشكل ملحوظ. على صعيد السويد مثلًا حصد الحزب الديمقراطي السويدي المتطرف، في انتخابات 2018م، نسبة 15,5% من الأصوات، وشغل 57 مقعدًا في البرلمان من مجموع 361 مقعدًا. فتوهَّمَ الحزب الديمقراطي السويدي أنه أصبح القبان لتشكيل الحكومة القادمة. فأظهر شعاراته وبرامجه المعادية للأجانب. والمفرح في الأمر أن كلتا الكتلتين الاشتراكية والمحافظة رفضتا التحالف معه لتشكيل حكومة؛ وهو ما أدى إلى تأخر تشكيل الحكومة لأشهر عدة.

إن المواطن السويدي، شأنه شأن المواطن الأوربي، بات يتجنب الاحتكاك بالعرب عامة والمسلمين خاصة، ويتخوف من وجودهم. أذكر بعض الأسباب:

النظرة الاجتماعية الضيقة لدى السويديين عن المقيم الذي جاء إلى السويد مشردًا وباحثًا عن لقمة العيش وبات يقاسمهم رزقهم.

لم يُقدم المقيم العربي والمسلم نفسه إلى المجتمع بطريقة صحيحة تتوافق مع شروط العمل. كما لم يتشكل لوبي عربي يدافع عن جاليته ويقدم النماذج الإيجابية الناجحة.

لم تهتم المؤسسات السويدية بالمجموعة العربية المندمجة وتُقدمها للمجتمع السويدي لتصبح قوة تُحسن صورة المواطن العربي. غياب برامج الاندماج المخصصة للسويديين مما عمق انعزالهم. سوء تصرفات بعض من الجالية العربية وممارستها للعنف في حل مشاكلها ساهَمَ في إعطاء صورة سيئة عن المقيم العربي الذي يمارس العنف في حياته اليومية. تأسست حركات وتنظيمات إسلامية متطرفة، ساهمت في أعمال عنف وقتل الناس الأبرياء بوحشية مما عمّق الصورة السلبية عن العرب عامة والمسلمين خاصة. ساهم الإعلام الأميركي والأوربي حتى العربي في رسم صورة مخيفة عن الشخصية العربية وأنها: متخلفة، وعنيفة، وعدائية، وفوضوية، وإرهابية. في الوقت الذي كانت وما زالت الشخصية العربية بسيطة، وطيبة، وتنحو للسلم، لكن متدنية التعليم، وتتخللها نماذج سيئة تعوّدت ممارسة العنف.

أنا أعتقد أن قوى اليمين المتطرف سوف تنحسر تدريجيًّا في الانتخابات المقبلة؛ لأن الناخب السويدي لم يجنِ سوى خيبات وفضائح. والأهم أنهم فقدوا مصداقيتهم في إدارة شؤون البلد. ولكون الناخب السويدي يصوّت لمن يقدم برامج ناجحة وقيادة أمينة ونزيهة للبلد، فلن يصوت لهم ولن تنطلي عليه ادعاءاتهم الباطلة.

أوربا لن تنغلق على نفسها وستستمر في قبول طالبي اللجوء، واستقبال الأيدي العاملة الأجنبية، لأسباب عديدة أذكر بعضا منها: ازدياد هجرة المواطنين الأوربيين إلى خارج أوربا، وهو ما يزعزع التطور الديمغرافي ويقلل نسبة السكان. التطور الصناعي الهائل يتطلب أيدي عاملة وكفاءات نوعية تناسب قدرات البلد نفسه. تمتلك قيادة الأحزاب الاشتراكية والمحافظة السويدية والأوربية نظرة إنسانية تجاه الشعوب التي تضررت بسبب الحروب التي يشعلها منتجو السلاح الأميركيون والأوربيون.

الدانمارك تعاقب حزبًا عنصريًّا

شاكر الأنباري روائي عراقي مقيم في الدانمارك

أوربا اليوم غيرها قبل ثلاثين سنة على سبيل المثال، حدثت تغيرات بنيوية في تركيبة مجتمعاتها، لعل أبرزها تحول تلك المجتمعات من أحادية الثقافة إلى متعددة الثقافة بسبب تزايد الهجرة من شعوب ذات خلفيات دينية وثقافية غير أوربية، أبرزها من بلدان عربية وإسلامية حملت تقاليدها، وعاداتها، وطقوس عباداتها، ولغتها، إلى مستقرها الجديد نتيجة لظروف قاهرة معظم الأحيان.

ورغم أن الواقع يقرّ بتلك التحولات الظاهرة للعيان، لكن البنى الفوقية النخبوية الأوربية لا تقر بالأمر تمامًا حتى اليوم، وتحاول أن تتغاضى عن تلك التحولات البنيوية في تركيبة مجتمعاتها، وهي مجتمعات لم تعد تستند إلى بنية مسيحية خالصة كالسابق، وبلون واحد، وسمات متشابهة بعض الشيء، وترتكز على تاريخ أوربي متواشج منذ عصر النهضة حتى الآن. وقد أحدث تلك التغيراتِ نمطٌ ثقافيٌّ آخرُ وافدٌ مع المهاجرين يتمثل هذه المرّة في أنواع الأطعمة، واللهجات التي تخلخل في بعض الأحيان اللغات الرسمية المتوارثة، والموسيقا، وطقوس العبادات، حتى رؤيتها إلى الحياة والأحداث.

ومعظم الشعوب الأوربية بدأت تتقبل ذلك بحكم الواقع، إلا أن الثقافة الرسمية ما زالت تتوجس من الاعتراف بتعدد تلك الثقافات، البعض بحجة الحفاظ على الهوية، والبعض بحجة الحفاظ على النقاء الديني أو اللوني، ومن ذلك الرفضِ تتولد الحركاتُ العنصرية التي تضع تلك التحفظات على أولويات شعاراتها، ودعاياتها، وعملها السياسي في محاربة الوجود الأجنبي في البلدان الأوربية.

في الدانمارك حدثت مفاجأة أذهلت الجميع في الانتخابات الأخيرة التي جرت في عام 2019م؛ إذ لم يحصل أكبر حزب يميني عنصري متطرف في عدائه للمسلمين خاصة، والأجانب عامة، سوى على 16 مقعدًا برلمانيًّا، في حين حصل في انتخابات عام 2014م على 37 مقعدًا، وبقراءة هذه المفاجأة بدقة يتبين للمراقب أن الشعب الدانماركي قرر معاقبة هذا الحزب العنصري بوعي تام. كون انتصاره السياسي سيعبث بالسلام المجتمعي، ويخلق أزمات اجتماعية خطيرة على مستقبل الأجيال القادمة، وبخاصة أن الدعاية العالية المعادية للأجانب لا تتناسب مع اندماجهم في الحياة اليومية، أو انصياعهم لقوانين البلاد، ولا يشكل التطرف لدى بعضهم سوى نسبة ضئيلة جدًّا لا تكاد تذكر. لقد تغيرت أوربا الشعبية بعمق، في تقبل الآخر، ولا يمكن إرجاع الزمن إلى الوراء، وهذا ما راحت النخب الثقافية والسياسية الأوربية تدركه أيضًا بعمق، وإن ببطء في بعض الأحيان.

ليس الاندماج ما يصنع صيغة للتعايش

إيهاب صبحي كاتب ومترجم مصري يقيم في فرنسا

في مدينة صغيرة مثل فيلييه لو بيل تقع في شمال باريس، لن يكون الأمر مفاجئًا لك وأنت في المقهى المقابل لمحطة القطار، أن تسمع لهجات غريبة على أذنك، ستدرك من فورك أن من يتحدث من حولك، وأنت تحتسي قهوة الصباح، ليسوا بفرنسيين، ولكنهم خليط من جنسيات مختلفة، ربما يربك صورتك الذهنية، ويجعلك تتساءل ولو للحظة عابرة: هل نحن في فرنسا؟ وإذا تناولنا المشهد على اتساعه، وسرنا في الشارع الذي به القهوة، سنجد محالّ يمتلكها أتراك، وكلدانيون، وصينيون، وهنود، وعرب، وأمازيغ، وأفارقة… ما كل هذا التنوع في مدينة صغيرة لا يتجاوز تعدادها السكاني 30 ألفًا؟

نحن هنا بصدد معايشة لنموذج عملي على قدرة الدولة على استيعاب مهاجرين من مختلف الجنسيات التي هاجرت من بلدانها واستقرت هنا، حاملة معها تقاليدها وثقافتها ولون بشرتها، ولكنها تعيش وفق منظومة القوانين الفرنسية. وإذا انتقلنا للحديث عن العرب على وجه التحديد، وتساءلنا: هل اندمج العرب في المجتمع الفرنسي؟ هنا يمكن لي أن أميز بين مستويات عدة من الاندماج. هناك من يتجه للانسلاخ من هويته تمامًا لكي يعيش مثل الفرنسيين في كل شيء وهو، على قلته، في ازدياد، نظرًا لتعاقب الأجيال وتمردها على الموروث. هناك من يحافظ على ثقافته الحياتيه العربية، لكنه ملتزم تمامًا بقوانين الحياة هنا، وهو تيار يمثل أغلبية نظرًا لأنهم يعيشون متجمعين في مدن وأماكن بعينها، مثل ضواحي باريس على سبيل المثال. وهناك من يقطع الصلة تمامًا بالمجتمع، متقوقع على نفسه، وهم قلة قليلة.

ومن واقع التجربة لا يبدو أن الاندماج من عدمه هو ما يصنع صيغة للتعايش، ولكن بلأحرى، هو التنوع الواعي، والاحترام للآخر تحت مظلة دولة القانون التي تكفل لكل هذا الاختلاف حرية العيش بكرامة ولو في حدها الأدنى. ولا يمكن القول بأن هناك توجهًا عنصريًّا من الحكومة الفرنسية تجاه العرب. وإن كانت العنصرية موجودة كسلوك بشري نراها بين الحين والآخر، فهي فردية، ولا تمثل سياسة دولة. والدليل العيني هو وجود ملايين المهاجرين بالفعل يعيشون في فرنسا.

تزيد وتيرة العنصرية وتنقص، على حسب ماهية الصورة الذهنية لدى الفرنسيين. وهي صورة تُراوِح رمزيتَها بين إيجابي وسلبي، غير ثابتة في المطلق لكنها تنتج عنصرية محتملة، في حدودها المنطقية، ولا تمثل عائقًا أمام طالبي العمل ذوي الكفاءات. إن عامل الكفاءة على وجه التحديد، هو الذي يجعل العرب مندمجين بشكل إيجابي في المجتمع، وهو الذي يرجح كفتهم على كل المستويات، رغم أي مشاكل ثقافية أو عنصرية تطولهم من بعض المرضى.

تقويض الأحكام الجاهزة

طه عدنان كاتب مغربي يقيم في بلجيكا

تصاعدت مشاعر الخوف من الإسلام (أو الإسلاموفوبيا) وبشكل محسوس على مستوى الحياة اليومية في أوربا منذ 11 سبتمبر 2001م… هذه المشاعر السلبية بدأت تترسّخ داخل الشعور الغربي العام على إثر تفجيرات مدريد 2004م، ولندن 2005م، إلى تفجيرات باريس وبروكسل وغيرها… التي حملت توقيعًا داعشيًّا هذه المرة.

وتكمن خطورة الإرهاب الداعشي في أنه لا يعتمد فقط على عناصر منتظمة عقديًّا وأيديولوجيًّا في التنظيم… إنهم يجنّدون الجميع. من شباب متحمسين، إلى منحرفين وأصحاب سوابق، حتى خرّيجي السجون. السجون التي أصبحت مكانًا ملائمًا للاستقطاب بالمناسبة. هناك استغلال واضح لظروف بعض الشباب العربي الذي يعيش على هامش المجتمع الغربي المتقدم. يكفي أن أذكر أن نسبة البطالة في حي مولنبك، ذي الأغلبية العربية في بروكسل الذي نزح منه معظم منفذي تفجيرات باريس وبروكسل، تناهز 40 في المئة في أوساط الشباب… معدّل أكثر ارتفاعًا من العديد من البلدان النامية. إضافة إلى الانسحاق الاجتماعي يعيش الشباب إحساسًا بالدونية بسبب خصوصيتهم الثقافية… وهذه كلها عناصر تستثمرها تنظيمات إرهابية خارجية لصناعة كتائب محلية للموت. وخطورة هذا الوضع تكمن في أن الإرهابي لم يعد فقط ذلك الإسلامي المتطرّف القادم من بعيد… بل هو البلجيكي الذي وُلد هنا… ودرس هنا… واستفاد من الخدمات العمومية والاجتماعية للبلد. شيء مريع فعلًا… ويساهم في خلق التشنّج المقصود تمامًا من جانب الإرهابيين، والمطلوب أيضًا من جانب أحزاب اليمين المتطرف الذي يقتات من حالة الذعر والفزع لبلورة موقف جماعي قائم على الحقد والكراهية.

ربما علينا أن نغادر المعترك العاطفي حيث الأخيار من جهة والأشرار من جهة أخرى. فمقاربة الموضوع بشكل جماعي تدفعنا إلى المساهمة في النقاش العام لتقويض الأحكام الجاهزة والأفكار السلبية المسبقة التي تُروَّج عبر الإعلام من جانب بعض النخب الثقافية. حتى لا نظلّ فقط حبيسي موضوع «الآخر: مصدر الشّر»… علينا أن ندلي بدلونا في عملية الفهم. الفهم لا التبرير. فالفهم يتطلّب الإدانة أحيانًا. وبقدر ما هناك من مثقفين يروّجون للإسلاموفوبيا، هناك أيضًا في أوربا مثقفون غربيون يدافعون عن العرب والمسلمين والمهاجرين… وبقدر ما هناك سعيٌ لإشاعة الإسلاموفوبيا والتقليل من شأنها كنوع من أنواع العنصرية، هناك أيضًا مؤسسات تناهض العنصرية بكل مشتقّاتها وهناك مراكز متخصّصة يمكن للمتضرّرين اللجوء إليها لمحاربة هذه الظاهرة بشكل قانوني متحضّر. إضافة إلى القضاء…

لكن ما مسؤوليتنا كأدباء في الدفاع عن صورتنا؟ أو بالأحرى، ما الصورة الصحيحة للعربي أو للمسلم؟ هل هي الصورة الجميلة والبرّاقة التي نكوّنها عن أنفسنا في الشعارات، فيما الوقائع تدحضها على نحو سافر؟

يجب أن نتوقف أيضًا عن التبرير والدفاع… يجب أن ننتقل بدورنا إلى موقع الفعل النقدي. فالإبداع يمكّننا من رواية قصتنا بشكل صادق. يقرّبنا من الآخر كما نحن دون رتوشات ولا مساحيق تجميل. كما أن علينا أن نتوجّه أيضًا إلى بني جلدتنا بخطاب واعٍ لا يطبطب عليهم… بل يساهم في تشكيل وعيهم بذاتهم وهويتهم كصيرورة تتشكّل باستمرار. كما علينا أن نساهم في تجديد الخطاب الديني… بتحيينه وتوطينه هنا بما لا يتعارض مع قيم المواطنة الأوربية.

لا يكفي أن نتنصل اليوم من كل شيء ونردّد عبارات مكرورة من عيار «الإرهاب لا يمتّ للإسلام بِصِلة». فهذا لا ينفي أن معظم الإرهابيين هم فعلًا من أصول عربية مسلمة؟ لذا علينا أن نعيد طرح إشكالية التأطير الديني في أوساط الهجرة؟

فالأئمة معظمهم ينتمي إلى الماضي. أناس محدودو الثقافة، غير ملمّين بلغة وثقافة البلد الذي يعيشون فيه، ولا يبذلون جهدًا يذكر في تجديد خطابهم لا على مستوى المضمون بإخضاعه إلى قراءة تاريخية تربط النصوص بسياقاتها ولا من حيث الشكل؛ لذا لا يصمد خطابهم أمام تطلعات شباب أوربي التنشئة. عكس الخطاب الدعائي الإرهابي الذي يعتمد رغم ضحالة مضمونه القروسطي على قوة إخراجية تقوم على تكنولوجيا حديثة. فالوصلة الدعائية الإرهابية تشبه في جاذبيتها إعلانات أعتى الأفلام الهوليودية. فيه يتحدث شباب يافعون بلغة يفهمها أترابه هنا مئة في المئة. كما أن التداول السلس لهذه الوصلات الدعائية عبر الهواتف الذكية تسهل من ترويج هذا الخطاب المدمّر على نطاق واسع. إنه يعطي للشاب البائس واليائس والمقصي والمحبط وَهْمَ لعب دور بطوليّ لأول مرّة في حياته، في غياب مرجعيات إيجابية وحافزات عملية تشدّه إلى الحياة بكرامة. فبسبب الفراغ الفكري والخواء الروحي والجفاف العاطفي؛ ينزلق شبابنا إلى هذا الدرك الأسفل من الحقد على الحياة برمّتها.

منتدى الجوائز العربية: سجال حول المعايير..  وخالد الفيصل رئيسًا فخريًّا

منتدى الجوائز العربية:

سجال حول المعايير.. وخالد الفيصل رئيسًا فخريًّا

لئن استبعد مهتمون بالجوائز أن ينجح منتدى الجوائز العربية في تعميم معايير بعينها، ودفع جوائز كبرى إلى تغيير لوائحها، بما يجنب الجوائز اللغط والاتهامات مع كل دورة يُعلَن فيها الفائزون، فإن منتدى الجوائز العربية، من ناحية، بدا أنه يتحول دورة تلو أخرى حدثًا ثقافيًّا بارزًا؛ لما تشهده نشاطاته من متابعة وحضور، وفيها يناقش ضيوفه وأعضاؤه القضايا التي تفرض نفسها على الجوائز ومسؤوليها، وما تتركه من ردود أفعال لا سبيل إلى إسكاتها. وظهر المنتدى في دورته الثانية التي عقدت في أكتوبر الماضي، أكثر قدرة على إدارة النقاش وبشفافية حول ما يعد شائكًا في الجوائز العربية، ومن ذلك مسألة المعايير التي باتت قضية مُلحّة، ما حدا بالأمين العام لجائزة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، جمال بن حويرب إلى أن يدعو، على هامش الندوة الثقافية التي عقدها الملتقى، زملاءه من أمناء ورؤساء الجوائز، في المنتدى، إلى تبني معايير علمية صارمة، بعيدة من الأهواء. وتذمر رئيس جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية الروائي طالب الرفاعي من محكمين وأعضاء هيئات علمية، قال: إنهم يرزحون على كاهل الجوائز لسنوات كثيرة، مطالبًا بتغييرهم من حين إلى حين، مشيرًا إلى أوضاع وصفها بالبائسة، يعيشها المبدع العربي، وهو ما يجعل من الجوائز طوق نجاة لهذا المبدع فيما لو ذهبت لمن يستحقها.

قد يواجه المنتدى صعوبات في اقتراح حلول مؤكدة للقضايا التي تعانيها الجوائز، سعيًا إلى نزاهة مطلقة، إلا أنه في المقابل، أحرز تقدمًا ملحوظًا في التعاطي مع هذه القضايا وبدَّد الحرج من الخوض في عدد من الإشكالات التي تكتنف هذه الجائزة أو تلك، وهو الأمر الذي دفع مسؤولي بعض هذه الجوائز إلى الاعتراف بما يعتري جوائزهم من مآخذ، تنال من سمعتها أحيانًا.

من ناحية، وافق الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة مستشار خادم الحرمين الشريفين رئيس هيئة جائزة الملك فيصل العالمية، على أن يكون رئيسًا فخريًّا لمنتدى الجوائز العربية، الذي رعى الفيصل انعقاد لقائه الثاني في أكتوبر الماضي، بحضور أمناء ورؤساء 23 جائزة عربية. الرئيس الفخري لمنتدى الجوائر العربية أكد في لقاء جمعه بأمناء الجوائر العربية، أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة في لحظة يشهد فيها الوطن العربي تمزقًا وصراعات، لم يسبق لها مثيل، موضحًا أن الثقافة هي حاضنة العرب، الموحدة والجامعة لهم. وقال الفيصل: إن المبادرات الخلاقة التي تستنهض الوعي والفكر الإيجابي، تنطلق من الثقافة.

وثمَّن أمناء الجوائز العربية موافقةَ الأمير خالد الفيصل على طلبهم أن يكون رئيسًا فخريًّا للمنتدى، وعدوها دعمًا كبيرًا للمنتدى وللجوائز العربية، لما للفيصل من مكانة كبيرة في الثقافة العربية رسختها تلك المشاريع الثقافية الكبرى التي رعاها ودعم انطلاقتها، كما تابع باهتمام نموها وتطورها، حتى أضحت من المعالم البارزة.

في اجتماع المنتدى اتفق الأمناء على عقد الدورة الثالثة للمنتدى في السادس والسابع من أكتوبر عام 2021م، أما المجلس التنفيذي للمنتدى فسيعقد اجتماعه في مارس 2020م، واختاروا الدكتور عبدالعزيز السبيل رئيسًا للمنتدى بحكم مقرّ المنتدى في مبنى جائزة الملك فيصل، كما اختير رئيس جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية الكاتب والروائي طالب الرفاعي نائبًا للرئيس. إضافة إلى إتمام اللائحة الداخلية واعتمادها، وهيكلة اللجان، وإطلاق البوابة
الإلكترونية للمنتدى.

ومما قاله الأمين العام لجائزة الملك فيصل الدكتور عبدالعزيز السبيّل في الندوة الثقافية: إن المنتدى نجح في الربط بين جوائز متباينة جغرافيًّا وموضوعيًّا، «جمع بينها إيمان بمسؤولية العمل العربي المشترك، والقناعة بأن التواصل المعرفي مع القطاعات العربية ذات الأهداف المتشابهة حريّ أن يخرج أعمالًا أفضل ويحقق نتائج أقوى لينعكس كل ذلك على العطاء الثقافي العربي». كما ألقى الرئيس التنفيذي لمؤسسة فلسطين الدولية الدكتور أسعد عبدالرحمن كلمة المجلس التنفيذي للمنتدى، أشار فيها إلى أن المنتدى وضع يده، في وقت قصير، على مداخل لحل عدد من الموضوعات والقضايا التي تخص الإبداع الثقافي العربي، وتشغل بال المتابعين للجوائز العربية.

شارك في الندوة الثقافية التي نظمها المنتدى، وكانت بعنوان: «الجوائز العربية بين الشعر والسرد» الروائية السعودية أميمة الخميس، والشاعرة السودانية روضة الحاج، والروائي الكويتي طالب الرفاعي، وأدارها الشاعر البحريني علي عبدالله الخليفة، أمين عام جائزة عيسى لخدمة الإنسانية.

 في ورقتها تساءلت أميمة الخميس عما إذا كان السرد يزاحم الشعر في إيوان الإبداع، وقالت: إن المنظومة الفكرية العربية كانت مؤسسة على شكل قصيدة. وإن السرد داخل هذا المشهد المتخم بشعريته يُقصى إلى الهوامش والأطراف. وأضافت أن انحسار الفروسية والمنبرية لصالح المدينة الحديثة والنخب البرجوازية المثقفة، خلق حاجة لنوع خطاب مختلف، وأدوات تعبير جديدة، فتصدت الرواية لهذا الدور.
وأن الجوائز تعد صياغة مختلفة للحوار بين المراكز الثقافية والأطراف.

 في حين ترى روضة الحاج أن الجوائز تمثل قيمة معنوية ومادية تقدمها المجتمعات للمبدعين، ممثلة في الدولة أو منظمات المجتمع المدني أو الأفراد. وأنها اعتراف من الدولة أو المجتمع الذي ينتمي إليه المبدع بما قدمه، مشيرة إلى وجود تأثير لجوائز الشعر والسرد في مجمل ملامح المشهد الإبداعي والثقافي العربي.

وتوقف طالب الرفاعي عند انتشار جوائز الرواية على حساب بقية الأجناس الأدبية، موضحًا أن ذلك يعود إلى هيمنة الرواية الكبير عالميًّا وعربيًّا، على مستوى الكتابة والنشر والجوائز، وكذلك على مستوى اهتمام جمهور التلقي. وقال الرفاعي: إن عناصر كثيرة تلعب دورًا رئيسيًّا في تحديد أهمية أي جائزة أدبية، سواء عالمي أو عربي، ويأتي على رأس هذه العوامل تاريخ الجائزة، وكذلك الشفافية والرصانة التي تتعامل بهما، وأسماء ومكانة الفائزين فيها، وأخيرًا قدرتها على التأثير في سوق الكتاب والنشر من جهة، ووعي وذائقة جمهور التلقي من جهة ثانية. وتحدث الرفاعي عن أوضاع الجوائز، المثيرة للسجال والانتقادات، من ناحية، وعن أحوال المبدع العربي التي تستدرّ الشفقة، لشدة بؤسها. وأثارت الندوة ملاحظات كثيرة ومداخلات عديدة، أدلى بها مسؤولون للجوائز ومثقفون ومهتمون.

يذكر أن منتدى الجوائز العربية، الذي يعدّ الأول من نوعه على مستوى العالم العربي دعت إليه جائزة الملك فيصل، بهدف التنسيق والتعاون بين الجوائز العربية لاستفادة بعضها من بعض في وسائل الإجراءات وطرائق التحكيم ولجان الجوائز، خصوصًا أن بعض الجوائز العربية تمتلك خبرات عالمية تمتد لـ40 عامًا. ويأتي المنتدى أحد الجهود التي تبذلها جائزة الملك فيصل التي لم تكتفِ بكونها جائزة فقط، إنما سعت إلى أن يكون لها دور ثقافي كبير من خلال الشراكات مع مؤسسات مرموقة وتبني مشاريع مهمة، مثل إعداد وترجمة كتب عن رموز ثقافية وعلمية بارزة، عربيًّا وإنسانيًّا.

كما أن الجائزة تنسق باستمرار مع مؤسسات الثقافة والأدب في السعودية، لتنظيم فعاليات تعزز من قيم العمل الثقافي المشترك، يسهم فيها بعض أعضاء منتدى الجوائز العربية الذين يأتون للمشاركة في الاجتماع. وفي هذا السياق، استضاف نادي الباحة الأدبي الشاعر البحريني علي خليفة، والشاعر الدكتور مراد القادري من المغرب، وتحدث كل منهما عن الحركة الشعرية في بلديهما. كما نظم نادي الرياض الأدبي لقاء ضم الشاعرة روضة الحاج والروائي طالب الرفاعي، وأداره الدكتور معجب العدواني. هذا اللقاء شهد حضورًا كبيرًا؛ إذ غصّت القاعة، بعد أن تلاشى الحاجز الذي كان يفصل بين النساء والرجال، بالحضور من الجنسين، واستمر اللقاء أكثر من ساعتين، وشهد مداخلات وأسئلة من عدد كبير من المهتمين بتجربة الرفاعي والحاج.