شعر أميركي أم شعراء أميركيون؟ متاهات من الشغف في صحبة تجارب شعرية

شعر أميركي أم شعراء أميركيون؟

متاهات من الشغف في صحبة تجارب شعرية

أميركا بلد التنوّع بكلّ تجلياته الظاهرية والفكرية؛ فهو خليط أجناس وإثنيات وثقافات وتقاليد وأديان، وحضارته تقوم على خلق بيئة إنسانية تتآلف مع جوهر الاختلاف والتعدّد والتغيّر؛ تلك السمات التي عنها ينجم النمو والازدهار على مختلف الصعد، ومنها يتشكّل قوس قزح من الجماليات الإبداعية. الشعر الأميركي لا يشذ عن هذه الخلطة السحريّة؛ فالتنوّع خاصيّة أصيلة فيه، بحيث إنّ البحث عن قواسم مشتركة بين شعراء هذه الهويّة أو بين مدارسهم النظريّة، يحيلنا ربما إلى الشعر الرديء فحسب، لأنّ الفرادة هي ما تميّز الشعر الجيّد في الذهنية النقدية الأميركية.

دكنسون

ويتمان وديكنسون اسمان عظيمان في الشعر الأميركي، عاشا في الزمن نفسه، غير أنّ شعريتيهما على طرفَي نقيض، مثلما كانت شخصيتاهما؛ فديكنسون كانت تقدّس العزلة والانفراد، وويتمان المُخالطة والرِّفاق. إمرسون، هو الآخر عاش في زمنهما، إنما في فلك فلسفته المتعالية. ثم لن ننسى إدغار آلن بو، الرومانسي الكبير، الخارج عن السِّرب، المتفرّد بعوالمه الشعرية والقصصية الغرائبية والسوداوية، الذي قال عنه وليم كارلوس وليامز بأنّ «الأدب الأميركي، به، به وحده، راسٍ على أرض صلبة» نزعة الاختلاف والتفرّد انسحبت على العقود اللاحقة، حيث يمكننا ملاحظة كيف أنّه في عشرينيات القرن العشرين، حين انفتح الروّاد من شعراء المدرسة التصويرية الأنغلو أميركية، على شعراء المدرسة الرمزية الفرنسية، ومن ثم الدادائية، والسوريالية، فإنهم انتهوا إلى ابتكار شعريات جديدة، تباينت أصوات أصحابها حتّى ضمن المدرسة الواحدة: عزرا باوند خرج من الحركة التصويرية لعام 1912م إلى حركة الدواميّة؛ ووالاس ستيفنز انتبه إلى أنّ الأشياء ليست كلّها متساوية كيما تخضع للمواصفات التنظيرية نفسها؛ ووليم كارلوس وليامز أيضًا انسحب ليجدّد لغته الشعرية، ويطعّمها بالنكهة الأميركية الخالصة، القريبة من لغة عامة الناس، والمختلفة عما عدَّه اللغة البالية للثقافة البريطانية؛ وكذلك الأمر مع ماريان مور، التي تفرّد شعرها بأسلوب خاص، ولم يحتفظ من التصويرية سوى بخاصيّة الكثافة… إلخ، ولم يكتفِ الشعراء الطليعيون آنذاك بنافذتهم على أوربا، بل سارعوا إلى تشريع نافذة أخرى على الشرق الأقصى، منفتحين على شعراء الصين واليابان وقصيدة الهايكو، وهو ما يؤكّد الميزةَ الراسخة في الشعرية الأميركية، وهي الاستعداد الهائل لاستيعاب الآخر، والقدرة الفَطِنة على الانفتاح واستثمار التنوّع.

ثمة ميزات أخرى للشعر الأميركي، بالغة الأهمية، كان لفت إليها الشاعر أُودن، من بينها مثلًا: العلاقة المضطربة بالطبيعة؛ ففي أميركا، حسب رأيه، لا يشجّع حجم القارّة أو الظروف المحيطة أو عامل المناخ، على الحميمية. أيضًا، هناك ميزة القلق التي تفسد علاقة الإنسان بماضيه ومستقبله. وينوّه أُودن بما جاء على لسان ألكسي دي توكوفيل (المؤرّخ والمنظّر السياسي الفرنسي) حول نوع الشّعر الذي يمكن أن ينتجه مجتمع ديمقراطي، إذ يقول: «أنا مقتنع بأنّ الديمقراطية في النهاية تحوّل الخيال من كل ما هو خارجي بالنسبة إلى الإنسان، وتركّزه على الإنسان وحده. قد تلهي الدول الديمقراطية نفسها لبعض الوقت بالاهتمام بإنتاج الطبيعة، لكنها لا تتفاعل مع الواقع إلا عبر معاينتها لنفسها». لقد صدقت نبوءة توكوفيل؛ ففي المجتمع الأميركي، الإنسان، هو محور المِخيال الشعري، لا الطبيعة، ولكن بالطبع، مع وجود استثناءات تفرضها بصمة التنوّع الدامغة، وهي على كل حال، تجارب اهتمت بالطبيعة من خلال علاقتها الجدلية بالذّات، وبالإنسان المعاصر. ويعتقد أُودن أنّ لدى الأميركي إِيمَانًا خادعًا بالذّات، حيث توجد فعلًا عقلية أميركية جديدة في العالم، واستثنائية، ولكنها ليست مُنتجَ النشاط السياسي الواعي بقدر ما هي منتج الطبيعة، والبيئة الجديدة والفريدة للقارّة.

نستخلص من ملاحظات أُودن، أنّ عدم ارتباط الشعراء الأميركيين بالماضي، وبالطبيعة، يجعلهم يكتبون في فراغهم الخاصّ، ومن المؤكّد أنّ ما ينتجونه يكتسب في الحال، أصالته وضرورته. ويرجع ذلك أساسًا إلى أنهم لا يشعرون بأيّ ارتباط حقيقي بما أُنجِز قبلًا، حتّى لو كانوا على دراية به. من هنا، تتوالد لدى الشاعر الأميركي عمومًا، البيئة النفسية المؤاتية ليكون متجددًا، وخلّاقًا، وميالًا إلى جاذبية القطيعة، لا الاستمرارية، ولا تثقل كاهله عقدة الذنب أو تحمله على الوفاء للتقاليد الأدبية الموروثة (أيضًا مع وجود استثناءات).

دونالد هول

الشاعر الأميركي دونالد هول، يعتقد أنّ الهوية الشعرية الأميركية تشكّلت، عندما تنكّر الشعراء الشباب للتقاليد البريطانية المتحضّرة التي اعتنقها إليوت، إذ عندها فقط، استطاع الشعر الحرّ أن يجد له مطرحًا، وكذلك اللغة العامية، ونموذجًا من الخيال الجديد، الذي استلزم وجوده نوعيات مختلفة من القراءات التي لا تهتم بالظواهر الخارجية بل بالتجربة الذاتيّة. بالمقابل، الناقد كلينث بروكس، رأى أنّ الثورة على الشعراء الفيكتوريين، والتقليد الأدبي الإنجليزي بأكمله، قلّص قدرة الأميركيين على صنع شعر جديد. ويجادل بروكس في أنّ ما جرى هو تقديم القشرة الخارجية من المواد الأميركية الحديثة على الفطائر التي هي أساسًا بقايا الأمس؛ بمعنى أنّ التجديد انشغل بالسطح فقط. وهو يرى أنّ إدخال السيّارات مثلًا، والكلام العاميّ إلى الشّعر، لا يضمن تلقائيًّا أنّ أي شيء آخر غير المفردات قد تغيّر؛ فقد أخفى التحوّل السطحي ركودًا أعمق.

في كل الأحوال، نورد هذه الآراء المتباينة لتأكيد أنّ النقد أيضًا لم يشذ عن خاصيّة التنوّع في الهويّة الثقافية الأميركية. الحداثة الشعرية الأميركية التي انطلقت بالثورة على الشّعر الرومانسي الأوربي، ومن ثم على الفصاحة في اللغة البريطانية، لا تزال مسيرتها الانتفاضية مستمرة إلى اليوم، وذلك بالثورة على مَنْ ثاروا من قبل، وبالثورة على نفسها جيلًا بعد جيل. إنّها ماضية في القطيعة مع الماضي، ومع سلطة الثقافة النخبوية. ولعلّ أكثر ما يلفت في الشعرية الأميركية المعاصرة، ظاهرة صفوف الكتابة الإبداعية، التي أصبحت متاحة اليوم في أوربا ومعظم دول العالم – الشاعر أُودن كان لفت إليها أيضًا – فهي إشارة إلى الثقافة الأميركية التي تسمح لكلّ شخص بأن يصبح شاعرًا من خلال التعلّم – ليس شاعرًا جيدًا على الأغلب – فمسألة إثبات الحضور باتت مُناطة بمدى فرادة الشخص لا بمدى شاعريته، ذلك أنّ الشّعر الأميركي اليوم في رأينا، بات يعوّل أكثر فأكثر على طبيعة الشخصية، ولكل فرد بالطبع ما يميّز شخصيته، وفِي هذا الملعب تحديدًا، تكمن فرصته الشعرية.

بناءً على ما سبق، فإنّ الشعر في أميركا في كلّ مراحله، متعدد الأقطاب، وظاهرة أنّ المكانة الشعرية مرهونة قبل كلّ شيء بمدى التّحليق خارج السّرب، أفرزت تنوعًا غنيًّا يشبه الخلطة السحرية لهذا المجتمع، القائم أساسًا على عدم التجانس الثقافي والاجتماعي. ولذا ثمة ما يحملنا على التساؤل والشكّ: هل هناك شعر أميركي فعلًا، أم شعراء أميركيون؟

 وقفات قصيرة في ست محطات فريدة

تستحيل الإضاءة على «المشهد البانورامي» للشّعر الأميركي برمّته. يمكننا فقط الإحاطة ببعض ملامح هذه الشعريّة في سياق تطورها مع التدليل على تباين أقطابها. أتوقّف لهذا الغرض بإيجاز عند ست تجارب فذّة، خلّاقة، لشعراء ذائعي الصيت، ومن الأصوات الأساسية، المؤثّرة والفاعلة، في مسار الحداثة الشعرية منذ انطلاقتها في أواخر القرن التاسع عشر حتّى النصف الأول من القرن العشرين، أي وصولًا إلى مرحلة ما بعد الحداثة التي انطلقت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

ما من بداية للحداثة الشعرية الأميركية لا تبدأ من والت ويتمان. إنّه البداية التي صُدّرَت إلى العالم. ومهما تعددت الدراسات التي تناولته سابقًا، فما من حبر يمكنه استنفاد هذه التجربة الفذّة، والمتمرّدة، والمفارقة أسلوبًا ومحتوى، التي لا تفتأ تذكّرنا إلى اليوم بالحلم الأميركي الويتماني الضائع. تخلَّى ويتمان في أوراق العشب عن تقاليد الشّعر الرومانتيكي الذي كان سائدًا خلال القرن التاسع عشر، في أوربا وأميركا، مزعزعًا مفاهيمه على صعيد الشكل والمضمون، بحيث إنّ إعلاء شأن النزعة الفردية، والإدراك الحدسي، وتغليب الطبيعة، بوصفها مصدر الخير، على المجتمع الإنساني، بصفته مصدر الفساد؛ كلّها مفاهيم رومانسية انقلبت في شعرية ويتمان إلى إعلاء شأن النزعة الجماعية، والتفكير التحليلي، وإعادة الاعتبار للإنسان
على اختلاف فئاته الاجتماعية، وبعيدًا من الأحكام الأخلاقية المسبقة. لقد تجاوز ويتمان شعراء زمنه أمثال: رالف والدو إمرسون، وإميلي ديكنسون، في منح الهوية الشعرية الأميركية خصوصيتها وفرادتها، وذلك عبر تثويرها، وفتح آفاقها على رؤى إنسانية تقدمية تنادي بالتعددية والمساواة وتقبّل الآخر المختلف. ومن نافلة القول، أنّ «أوراق العشب» مهّدت الطريق أمام أصوات مجددة برزت في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، من خلال أعمال مثل: «الأرض الخراب» لتي. إس. إليوت، و«الأناشيد» لعزرا باوند، و«الهارمونيوم» (القدميّة) لوالاس ستيفنز. لكنّ اللافت أنّ تجربة الأخير لم تحظَ عربيًّا من خلال الترجمة، بالاهتمام الذي أحرزته تجربتا إليوت وباوند.

والاس ستيفنز

 سعى ستيفنز متأثرًا بقراءاته الفلسفية، وميله إلى مذهب الشكوكية، إلى استكشاف فلسفي للذّات، ولعلاقتها بالواقع الخارجي. شعره تمحور حول فرضيات متبادلة بين العالم الخارجي والخيال الإنساني. فالعالم المتجاوز لإدراك الإنسان، يتطلب منه التفعيل الجمالي للغة، مستعينًا بمخيلته من أجل فَهْم ما فيه. وتماشيًا مع فلسفة كانط، دافع ستيفنز عن دور اللغة المنتج للمعرفة، وغير المقتصر فقط على المحاكاة للأشياء. فالشّعر ليس مجرّد تعبير عن عالم خارجي أو تجميل له، بل هو تجسيد لحقيقة من صنعه الخاص (حقيقة تصنعها اللغة مستعينةً بالخيال). ثوّر ستيفنز المخيّلة لترى إلى واقع الأشياء متجاوزة الواقع إلى ما هو أبعد وأعمق (ثار على «تصويرية» باوند)، ولذا أمعن في التجريد، والميتافيزيقا، وتفرّد أسلوبه ليصبح صعب التقليد. الواقع لستيفنز موجود في الخيال؛ والمعنى لا يقيم في الأشياء نفسها، بل في ما يُسقَطُ عليها بواسطة الطاقة الفنية والتخيلية للعقل البشري. مخيلة الإنسان هي عبقريته الوحيدة، والشّعر بهذا المعنى، هو احتفاء الخيال بطاقاته الإبداعية، ووسيلة لتوضيح غموض العالم. أَعْلَى ستيفنز من شأن الشعر ليحلّ مكان المقدّس، من دون أن يثقله بأيّ وِزْر أخلاقي.

خلال المدة نفسها التي انشغل فيها ستيفنز بنظريته عن الخيال، وهو الرجل المحافظ المقيم في برجه العاجيّ، في جنوب نيو إنغلاند، كانت مينا لُوي، الشاعرة المتحررة، والفنانة التشكيلية الطليعية، والمرأة الجريئة والفاتنة والمثيرة للجدل، تخوض تجربتها الراديكالية من قلب مدينة نيويورك، أكثر مدن العالم تأجُّجًا بالحراك الثقافي والفنيّ، وتلفت إليها أنظار كبار الشعراء والكتّاب والفنانين، أمثال: عزرا باوند، وغرترود شتاين، ومارسيل دوشامب، ووليم كارلوس وليامز، حتّى إنّ الأخير كان ذهب إلى تقسيم المشهد السيكولوجي لطليعة نيويورك في ذاك الوقت: إلى الجنوب «الديونيسوسي» التابع إلى مينا لوي (نسبة إلى ديونيسوس إله الخمر والخصوبة عند الإغريق)، والشمال المفرط الحساسية والاحتشام التابع لماريان مور. التمع نجم لوي في العشرينيات من القرن الماضي، ثم لاحقًا انطفأ، وجرى طمسه والتعتيم عليه، على غرار ما حدث لشعراء كثر كانوا فاعلين في تلك الآونة، ولكنّ قصائدهم في معظمها فُقدتْ على صفحات مجلات ودوريات سياسية صغيرة، ولا سيما تلك التي انتمت إلى اليسار السياسي، والتي تخلّصت منها المكتبات في أثناء الحقبة المكارثية اللاحقة في الخمسينيات. أخبرتنا السردية التي وصلتنا عن الحداثة، أنّ عزرا باوند، وتي إس إليوت، كانا الشاعرين الأكثر حداثة في اللغة الإنجليزية في حقبة الحرب العالمية الأولى. ولكن سيمضي أربعون عامًا على موت الشاعرة لوي، قبل أن يُعاد اكتشافها مجددًا، وينصفها النقد المعاصر، كموهبة أنثوية حداثوية أساسية، ويمنح تجربتها دورًا رياديًّا فاعلًا في تيارات حركة الحداثة الشعرية والتشكيلية، في الربع الأول من القرن العشرين، وأيضًا في الحركات النسوية.

ستانلي كيونتز، شاعر آخر، صاحب تجربة فريدة وغنية، نظرًا لدوره المتميّز، والعميق الأثر، على أجيال من شعراء الحداثة وما بعد الحداثة في أميركا. هذا المعلِّم، الذي لم يخنه الشّعر حتّى بعد بلوغه عمر المئة، إليه يعود الفضل في تأسيس بيت الشعراء في نيويورك، ومركز أشغال الفنون الجميلة في بروفينستاون من ولاية ماساتشوستس. وإليه كان يحمل شعراء، بينهم رَتْكي وغينسبرغ، قصائدهم ملتمسين النصح والإرشاد. كان كيونتز شاعرًا واسع الثقافة، وعميق المعرفة، ومطّلعًا على جميع الديانات بما فيها الإسلام. قدّره بلده كما لم يقدّر شاعرًا آخر من مجايليه، فمنحه منصب «شاعر البلاد» مرتين. وقف ضدّ الحروب الأميركية كلها (ولا سيما غزو العراق)، وأحبّ الطبيعة والعناية بالأرض والنباتات، بحيث تداخلت لديه عناصر كتابة القصيدة بعناصر مهاراته الزراعية؛ فحديقة منزله في بروفينستاون كانت مَعْلمًا جماليًّا لا يقلّ أهمية عن جماليات قصائده نفسها، وقد ألّف فيها كتابًا شعريًّا/ نثريًّا. شدّد كيونتز على أهمية عنصر الغموض في الشّعر، على غرار تضاريس حديقته التي شاءها متعرجة بممرات ملتوية، وشبّه اللاوعي بالبرِّيَّة، وعدَّه عالمًا لا يجوز ترويضه. شعره عكس فلسفته حول ترابط منظومة الخلق الكونية كلها بعضها مع بعض فيما يشبه النسيج، بحيث إنّ حركة الموجودات والكائنات في أيّ مكان وزمان تؤدي إلى ارتعاش النسيج كلّه.

ستانلي كيونتز

في المحطة الخامسة أقف عند ثيودور رَتْكي، صديق الشاعر كيونتز، ومثله له مكانته المتفردة، وتأثيره البالغ، في جيل لاحق من الشعراء الأميركيين البارزين، أمثال: روبرت بلاي، وكارولين كيزر، وجيمس رايت، وغيرهم. تميّز بخصوصية أسلوبه، الفائق الغنائية، والصارم التقنية، والبعيد من الزخرفة. عُدَّ من مجموعة الشعراء الاعترافيين، لانهماك أشعاره في عوالم الذّات، ولسبره عتمات طفولته، والنهل من سيرته الذاتية.

نظر رتكي إلى الشّعر بوصفه محاكاة (منتهجًا مفهوم إليوت بخصوص «الاستيعاب والمحاكاة»)، وإعادة إنتاج للموروث الشعري، إنما بلغةٍ جديدة، تتخلّى عن الرومانسية، وتحاكي العصر، وتتجاوز الماضي الباذخ ولو بخطوة إلى الأمام. اعتمد في شعره تقنيات السرد الحديثة القائمة على تداعي تيار الوعي أو سيل الوعي، وحقق أداءً شعريًّا لافتًا، بأسلوب مترابط، سوريالي في أغلب الأحيان، يصوّر العقل في أوضاعه الأوليّة. وعمومًا، تبرز في تجربة رتكي ثلاث ميّزات، الأولى: ابتكاراته الأسلوبية في كتابة القصيدة الحرّة، مع إتقانه في الوقت عينه لأشكال القصيدة التقليدية. الثانية: العالم السيكولوجي العميق لشعره ونمطه الشخصيّ والاعترافي. الثالثة: توظيفه لعالم الطبيعة في شعره بطرائق مبتكرة ورائدة. هذه الميزات هي التي ضمنت له سمعة كواحد من أشهر الشعراء الأميركيين في القرن العشرين والأكثر انتشارًا.

 على النقيض من شعرية الذّات، والمدرسة الاعترافية، التي انتمى إليها رتكي وشعراء آخرين، أمثال : روبرت لويل، وجون بريمان، وسيلفيا بلاث، وآن سكستون؛ تفرّدت الشاعرة إليزابيث بيشوب، وهي من مجايلي رتكي، بشعرية «المكان»، القائمة على الأسلوب الوصفي الدقيق والمجازي للعالم الخارجي، بعاطفة متحفظة وأحيانًا محايدة، لا تترك للقارئ منفذًا للتلصّص على حياتها الشخصية وعالمها الذاتي. كانت بيشوب رسّامة أيضًا، وهو ما جعل شعرها أشبه بالفنّ التشكيلي. في قصائدها، لا مجال لمعاينة انفعال المشاعر الهذياني الفوري، إنما هناك عَيْن متأمّلة في جوّ من الصفاء الذّهني، تركّز بدقة مدهشة على تسجيل انطباعاتها عن العالم الماديّ، عاكسةً فطنة حادّة وحسّ الشاعرة الأخلاقي. على غرار رتكي، حملها حرصها على براعة الصنعة، وإنشادها الكمال، على الكتابة بتأنٍّ شديد، والإقلال في النشر؛ فمجموع قصائدها المنشورة لا يتعدى المئة، ولكنّ التألّق التقنيّ، والتنوّع الشكليّ لأعمالها، علاوةً على ما يستبطنه شعرها الموزّع على جغرافيات مختلفة، من سعي لامتلاك شعور بالانتماء، وما يجسّده من تجارب إنسانية للألم والحنين، بعيدًا من البوح العاطفي المباشر؛ جميع هذه العوامل جعلت لها مكانة متميّزة ومرموقة بين شعراء ما بعد الحداثة الأميركيين.

 بصمات ذهبية عمّقتها الترجمة

لئن اخترت التوقّف عند هؤلاء الشعراء الستة البارزين من بين غيرهم من الأسماء الشعرية المهمة أيضًا، فذلك لأني مؤخرًا أعدت قراءتهم بعمق، وقمت بترجمة بعض قصائدهم كنماذج من الشعريات الأميركية. والحقّ أنّي في أثناء ذلك قد وجدتني في متاهات من الشغف، ولا سيما أني لم أجب تجاربهم بمزاج سائحة، بل صادقتهم وجدانيًّا، وانغمست في عوالمهم الذاتية، وشاركتهم عذاباتهم ومُتَعهم، ونظرت إليهم كشاعرة متورطة في شعرهم، وكقارئة مفتونة بسحر إنجازاتهم ومشاعرهم وأفكارهم وأحلامهم وأسرارهم ومواقفهم ومساراتهم ومصائرهم ومساكنهم وصداقاتهم. لكأنّي جلست مع ويتمان تحت تلك «السنديانة» الوحيدة في لويزيانا. لكأنّ أمواج البحر، اكتسحتني أيضًا، في نزهتي مع ستيفنز في «كي وست»، ومن ذهني وذهنه معًا سال ذاك «البلسم الذهبي». لكأنّي تمددت إلى جانب كيونتز في ذاك «القارب الطويل» الذي تهدهده اللانهايات، ومعًا صرخنا: «أبي، عُدْ، عُدْ، أنتَ تعرف الطريق.» لكأنّي مع رَتْكي رقصت «رقصة الفالس» حتّى تخوم الجنون. روح مينا لُوي المتمردة، العاشقة، المغامرة، أيضًا جعلت «كلّ خليّة في جسدي جِنِّيًّا صغيرًا.» وروح الخسارة المتوّجة بالكبرياء لدى بيشوب، عذّبت روحي إلى حدّ الألق، والتوهّج البركاني الدَّفين؛ فمثلها أنا، خسرتُ «مدينتين بهيتين، وبِضع ممالك، ونهرًا وقارّة»، ولكنّي غنمتها هي؛ غنمتُ سحرها، وأصداء «الوَقْع الحزين، لقبقابٍ خشبيّ» كان يُطقطق يومًا ما، في محطة ما، في مدينة ما، على خريطة ترحالها.

 رَتْكي كان «اعترافيًّا» وآمن باللغة كوسيط، بينما ستيفنز شكّك بطاقاتها إنْ لم تتجنّح بالخيال. بيشوب ضدّ «الاعترافية»؛ مذهب المعذّبين في الأرض. كيونيتز مُعلّم خبير عاش منجذبًا إلى الأرض، ولكنّه لم يسمح للأرضيّ أن يسلبه السماويّ، ولا للواقع أن يسلبه الأسطورة. لُوي قدّست اللحظة الراهنة حتّى الثمالة، وويتمان وعد العِباد في كل البلاد، الذين يتساءلون عن ماهية العالم الجديد، وديمقراطية أميركا، بأن يرسل إليهم بأوراقه كيما يجدوا فيها مبتغاهم؛ (ويا ليت بلاده اليوم حذت حذوه، وبعثت لبلداننا العربية المتوسّلة بأوراق عشبه فقط، فلربما كانت تعينها على نيل حرياتها متفاديةً ديمقراطياتها الدموية.) ما سلف، ليس إلّا جذوات من انطباعات لا تني تضطرم في رأسي بلا كلل نتيجة معايشاتي الطويلة لهؤلاء الشعراء ولقصائدهم؛ فهم ممن يخلفون بصمات ذهبية في العقل والقلب، ولا تكفّ أشعارهم عن شحذ الروح والمخيلة بفتنتها الآسرة.

قصيدتان

ضوء الخَفَاء

من مكانٍ قصيٍّ، من زمانٍ آخر، أَجيءُ إلى هذا العالم بقَدَمَيْن، حفيفُهُما  الوَداعُ.

بنصف نظرةٍ، أملأُ جِراري من الظلال، بلا انفعال أو حِبالٍ، فقط أمدُّ يدًا حائرةً  تتقلّبُ بين اللحظات، خاطفةً، لتعودَ وتطيرَ إلى سرِّها البعيد.

لا أخونُ طبيعةَ غيمتي، ولا دربًا في الغابات أعشقُها، ولا تَهمُّ أحدًا.

وأنا حاضرةٌ، أضيعُ في الهَمْس العميق لأشياءَ تُسْحَقُ في أقاصي الأرض.

بين الضوء الحارق والثاقب، أنا ضوءُ الخَفاء. حُضوري هو نفسُه لحظةُ تلاشِيَّ، ولستُ سرابًا، أنا فقط أفقدُ طريقَ عودتي؛ إذ ألتفتُ، ومن خِفَّتي لا يتركُ وجهي طيفَهُ في الهواء.

أنا زئيرٌ في شَغَاف الحياة، ومع ذلك، منذورةٌ للصمت. أتناهى داخلَ زجاجِ رُوحي، وبسِحْرٍ أُخفي قمرًا قلِقًا خلف ظلِّي، لئلا أنكسرَ.

بدون مِراسٍ، نُولدُ ونموتُ، وأنا بفطرتي أُجيدُ قراءةَ مأساةِ الغُبارِ وصفيقَ الأجنحةِ الخافقةِ بالوجود.

أرى بوضوحٍ أكثر من خلف الضَّبَاب، فلا أطيلُ المُكُوثَ، ولا أتواطأُ مع السنوات ضدّ السنوات، أنا فقط أختفي.

امرأة الأدغال

إنّها القسوةُ

العِطْرُ المُكَدّسُ مرارةً؛

سائلُ البنفسجِ القاتمِ أنزفُه من

وحوشي الصغيرة قبل أنْ أتكَثّفَ،

وهذا العويلُ المُظلمُ الشَّرِسُ

يصعدُ من قلبِ رَهَافةٍ يتمزّق.

زمنٌ والموتُ يُمطرُ داخلي

وأنا بذرةٌ تَصْغُرُ،

التضاؤلُ كثيفٌ في مَسَامي

كأنّي ميتاتُ غروبٍ مُتعاقبٍ في قطرة.

يصدفُ أن أعيشَ، أنسى، أُحِبَّ،

وأن أمزّقَ الأُفق،

غير أني لم أقصدْ ذلك

ولم أخلطِ الريحَ بالشمس

ولا دمي بالسُّحْب،

كنتُ فقط الشيءَ الصغيرَ الذي

لا يني يصغرُ داخل كَفَنِه، ولا يُخْتَرَق.

بأظافري في التُّراب وشَعْري على الشَّجَر

أُتقنُ إهمالَ الزمن،

أُتقنُ الغيابَ الطويلَ في اللاشيء:

أغرزُ عينيَّ في الزجاجِ المُخيف للحَسَرات

وبالتدريج أشربُ،

الظلامُ يشتدّ حين أمضي في الشُّرْب،

أفتحُ نوافذَ، وأغلقُها

أفتحُ كُتبًا وقارّات

حياةٌ غريبة بلا ظلّ.

الأفضل أن أتدفّقَ داخلي على شكلِ

صُوَرٍ ميّتة،

صُوَرٍ فقط

لا أسماءَ لها، ولا كثافة،

الأفضلُ أن أحيا برأسٍ خفيفةٍ برّيّةٍ

كثمرةِ فُطْر

وبقدمينِ لا يجرفهما موج،

الأفضلُ الغَرْقُ في تمجيدِ التُّراب

وفي تَرْكِ الميّت يموتُ في التخلّي،

فأنا بالسهولة ذاتها بعد قليل

سأُفْرِغُ خزائني، وأهجرُ سريري

وأكنسُ غرفتي

حتى إني سأتخلّى عن فكرة موتي نفسها

وأكتفي بقَبْر.